انشغل "محمد بن خوارزم شاه" في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن لا ننسى أنه كان منفصلاً ـ بل معاديًا ـ للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية، فلم يكن على وفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا مع الغوريين في الهند، وهكذا كانت مملكة خوارزم شاه منعزلة عن بقية العالم الإسلامي ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول ..
وهذه المملكة ـ وإن كانت قوية ـ وتمكنت من الثبات في أول اللقاءات فإنها ولا شك لن تصمد بمفردها أمام الضربات التترية المتوالية ..
وعلى الرغم م قوة التتار وبأسهم، وكثرة أعدادهم إلا أن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك لن يكون بسبب هذه القوة وإنما سيكون بسبب الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين" .. (الأنفال: 46) ..
فجعل الله ـ عز وجل ـ الفشل قرينًا للتنازع، والمسلمون كانوا في تنازع مستمر، وخلاف دائم وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار ـ كما سنرى ـ كان المسلمون يُغِيرُون على بعضهم، ويأسرون ويقتلون بعضهم البعض، وقد عُلِمَ يقينًا أن من كانت هذه صفتهم، فلن يُكتبَ لهم النصرُ أبدًا ..
روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " .... وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم من بأقطارها ـ أو قال: من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا" ..
فالمسلمون كانوا ـ في تلك الآونة ـ يهلك بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، فلا عجب إن غلب عليهم التتار أو غير التتار ..
وبالإضافة إلى داء الفرقة فإن هناك خطأ واضحًا في إعداد "محمد بن خوارزم شاه"، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة "أورجندة" إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية، ولكن لماذا يقع قائد محنك خبير بالحروب في مثل هذا الخطأ الساذج؟!
الواقع أن الخطأ لم يكن تكتيكيًا في المقام الأول، ولكنه كان خطأً قلبيًا أخلاقيًا في الأساس، لقد اهتم "محمد بن خوارزم شاه" بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون جدًا في تأمين شعبه، وحافظ جدًا على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه, وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأممهم، وعادة ما تسقط أيضًا الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح ..
اجتياح بُخَارَى:
لقد جهَّز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع إلى اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن) وحاصرها في سنة 616هـ ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان "محمد بن خوارزم" بعيدًا عن بخارى في ذلك الوقت، فاحتار أهل بخاري ماذا يفعلون؟ ثم ظهر رأيان:
أما الرأي الأول فقال أصحابه: نقاتل التتار، وندافع عن مدينتنا، وأما الرأي الثاني فقال أصحابه: نأخذ بالأمان، ونفتح الأبواب للتتار لتجنُّب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار "لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة" .. (التوبة: 10) ..
وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين، فريق من المجاهدين قرر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها، وفريق آخر من المستسلمين وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرروا فتح أبواب المدينة والاعتماد على أمان التتار ..
وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيز خان إلى المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعة لهم، وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة ..
وفعلاً بدأ جنكيز خان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة عشرة أيام ثم فتحها قسرًا، ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا، ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون ..
¥