وهنا بدأ جنكيز خان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها، ثم اصطفى كل ذلك لنفسه ثم أَحَلَّ المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل، ويصور لنا ابن كثير هذا الموقف في كتابه القيم "البداية والنهاية" قائلاً: "فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلا الله عز وجل وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهلنَّ (اغتصبوا البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها) فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل, ومنهم من أُسِر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعل التتار النار في دُورِ بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها" ..
انتهى كلام ابن كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
هلك المجاهدون الصابرون فيها، وكذلك هلك المستسلمون المتخاذلون ..
روى البخاري مسلم عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. "إذا كثر الخبَث" ..
وكان الخبث قد كثر في هذه البلاد، وإذا كثر الخبث لابد أن تحدث الهلكة، وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم ..
وكانت سنة 617هـ من أبشع السنوات التي مرت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى هذه اللحظة، لقد علا فيها نجم التتار، واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسبق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمعْ به، وما لا يُتخيَّل أصلاً ..
ومن المناسب أن نقدم لهذه الأحداث بكلام المؤرخ الإسلامي العلامة "ابن الأثير الجزري" رحمه الله في كتابه القيم (الكامل في التاريخ) وكلامه في غاية الأهمية ويعتبر به جدًا في هذا المجال أكثر من كلام غيره، لأنه كان معاصرًا لكل هذه الأحداث، وليس من رأى كمن سمع ..
يقول ابن الأثير رحمه الله وهو يقدم لشرحه لقصة التتار في بلاد المسلمين:
"لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليها رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها .. عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها .. ".
كانت هذه مقدمة ابن الأثير رحمه الله لكلام طويل يفيض ألمًا وحزنًا وهمًا وغمًا ..
ففي عام 617 هـ انتقل التتار بعد أن دمروا مدينة بخاري إلى المدينة المجاورة "سمرقند" (وهي أيضًا في دولة أوزبكستان الحالية)، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: "فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل" ..
أما لماذا كانوا يصطحبون الأسارى معهم؟ فالأسباب كثيرة:
أولاً: كانوا يعطون كل عشرة من الأسارى علمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل رهيب، فلا يتخيلون أنهم يستطيعون محاربتهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونهم.
ثانيًا: كانوا يجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم، ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه ..
ثالثًا: كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع لهم، ويختبئون خلفهم، ويطلقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم ..
رابعًا: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لِبَثِّ الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار ..
خامسًا: كانوا يبادلون بهم الأسرى في حال أسر رجال من التتار في القتال، وهذا قليل لقلة الهزائم في جيش التتار ..
كيف كان الوضع في سمرقند؟
¥