لقد سقط الكثير من زعماء المسلمين أيام التتار في مستنقع الموالاة لأعداء الأمة، وكان منطقهم في ذلك أنهم يجنبون أنفسهم أساسًا، ثم يجنبون شعوبهم بعد ذلك ويلات الحروب .. فارتكبوا خطأ شرعيًا وعقليًا شنيعًا .. بل ارتكبوا أخطاءً مركبة .. فتجنُّب الجهاد مع الحاجة إليه خطأ، وتربية الشعب على الخنوع لأعدائه خطأ آخر، وموالاة العدو واعتباره صديقًا, والثقة في كلامه وفي عهوده خطأ ثالث ..
وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه بوضوح: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين] {المائدة: 51} ..
وهذا التحذير خطير من رب العالمين .. وكم هو أحمق أو ضعيف الإيمان من يستمع إلى هذا التحذير ثم لا يلتفت إليه ..
لقد أسرع أمراء المسلمين بعقد الاتفاقيات المهينة والمخزية مع التتار لتسهيل ضرب بلاد المسلمين ..
ولم يعقد منكوخان هذه المعاهدات بنفسه؛ لأنه استهان جدًا بهؤلاء الأمراء، فقد كان كل واحد منهم لا يملك سوى بضعة كيلومترات، ومع ذلك يسمِّي نفسه أميرًا، بل ويلقب نفسه بالألقاب الفاخرة مثل: المعظم والأشرف والعزيز والسعيد وغير ذلك ..
وكَّل منكوخان أخاه هولاكو في عقد هذه الاتفاقيات المخزية .. فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يسارعون في التتار الأقوياء .. [فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين] {المائدة: 52} ..
فجاء إلى هولاكو بدرُ الدين لؤلؤ، أمير الموصل ليتحالف معه.
وجاء سلطانا السلاجقة وهما: كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ليتحالفا أيضًا مع هولاكو، وكانا في مكان حساس جدًا، فهما في شمال العراق (تركيا الآن) وتحالفهما يؤدي إلى حصار العراق من الشمال، وقد كان أسلوب كيكاوس الثاني في التزلف إلى التتار مخزيًا إلى الدرجة التي صدمت التتار أنفسهم!!
ورضخ أيضًَا الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، ومع كونه حفيد الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله بل شبيهه في الاسم واللقب .. إلا أنه لم يكن يشبهه في شيء من الأخلاق أو الروح، بل كان مَهِينًا إلى الدرجة التي أرسل فيها ابنه العزيز لا ليقدم إلى هولاكو فروض الطاعة فقط، بل ليبقى معه في جيشه كأحد أمرائه .. !!
وكذلك جاء الأشرف الأيوبي أمير حمص ليقدم ولاءه لزعيم التتار ..
لقد كانت هذه التحالفات في منتهى الخطورة .. فهي بالإضافة إلى مهانتها وحقارتها قد زادت جدًا من قوة التتار الذين أصبحوا يحاصرون العراق من كل مكان، ويعرفون أخبار البلاد من داخلها، وفوق ذلك فإن هذه التحالفات أدت إلى إحباط شديد عند الشعوب التي رأت حاكمها على هذه الصورة المخزية؛ فضعفت الهمم، وفترت العزائم، وانعدمت الثقة في القادة، ومن ثَمَّ لم يعد لهم طاقة بالوقوف في وجه التتار ..
لقد كانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس .. !!
قيام دولة المماليك وإشراقة أمل:
بعد سقوط دمشق في أيدي التتار في أواخر صفر سنة 658 هـ , وذلك بعد سنتين تماما من سقوط بغداد , قرر "كتبغا " أن يحتل فلسطين, وباحتلالها يكون التتار قد أسقطوا العراق بكامله ,وأجزاء كبيرة من تركيا , وأسقطوا أيضا سوريا بكاملها وكذلك لبنان وفلسطين , وقد حدث كل ذلك في عامين فقط ووصل التتار في فلسطين إلى غزة , وأصبحوا على مسافة تقل عن خمسة وثلاثين كيلو مترا فقط من سيناء , وبات معلوما للجميع أن الخطوة التالية المباشرة للتتار هي احتلال مصر.
وهذا أمر لا يحتاج إلى كبير ذكاء!! .. فالمتتبع لخط سير التتار سيدرك على وجه اليقين أن مصر ستكون هدفاً رئيسياً لهم، وذلك لعدة أسباب منها:
ـ أولاً: سياسة التتار التوسعية واضحة، وهم لا ينتهون من بلد إلا ويبحثون عن الذي يليه، ومصر هي التي تلي فلسطين مباشرة ..
ـ ثانياً: لم يبقَ في العالم الإسلامي بأسره قوة تستطيع أن تهدد أمن التتار إلا مصر، فقد سقطت كل الممالك والحصون والمدن الإسلامية تقريباً، وبقيت هذه المحطة الأخيرة ..
ـ ثالثاً: مصر ذات موقع استراتيجي في غاية الأهمية، فهي تتوسط العالم القديم، وخطوط التجارة عبر مصر لا تخفى على أحد ..
ـ رابعاً: مصر بوابة أفريقيا، ولو سقطت مصر لفتح التتار شمال أفريقيا بكامله، وشمال أفريقيا لم يكن يمثل أي قوة في ذلك الوقت، لأن وصول التتار إلى الشام كان متزامناً مع سقوط دولة الموحدين بالمغرب سقوطاً كاملاً، وتفكك الشمال الأفريقي المسلم إلى ممالك متعددة صغيرة، ولو سقطت مصر فلا شك أن كل هذه الممالك ستسقط بأقل مجهود ..
ـ خامساً: الكثافة السكانية الكبيرة في مصر، فقد كان سكانها يبلغون أضعاف سكان المناطق الإسلامية الأخرى ..
ـ سادساً: الحمية الدينية والصحوة الإسلامية عند أهل مصر عالية .. بل عالية جداً .. ويخشى التتار أنه لو تولى أحد الصالحين المجاهدين قيادة هذا البلد كثيف العدد، شديد الحمية، المحب للإسلام، والغيور على حرمات الدين، أن تتغير الأوضاع، وتتبدل الأحوال، ويهتز وضع التتار في المنطقة بأسرها ..
لهذه الأسباب ـ وقد يكون لغيرها أيضاً ـ كان التتار يعدون العدة للانتقال من فلسطين إلى مصر، ومع متابعة سرعة انتقال التتار من بلد إلى بلد، فإن المراقبين للأحداث لابد أن يدركوا أن تحرك التتار إلى مصر سيكون قريباً، بل قريباً جداً، حتى لا يعطي التتار الفرصة لمصر للتجهز للحرب الحتمية القادمة ..
( .... منقول .... )
ــــــــ
(1) د. راغب السرجاني: قصة التتار من البداية إلى عين جالوت - الطبعة الأولى 1427 - 2006 مؤسسة اقرأ.
(2) محمود شاكر: الدولة العباسية جـ 5 ص 8، 9.
¥