تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولد فارس في عشقوت إحدى قرى كسروان من أعمال لبنان في سنة 1805، وليس في سنة 1804 كما يزعم بعضهم خطأ. ومن المتفق عليه أنه ولد في عشقوت. ووالداه انتقلا من حارة الحدث المجاورة لبيروت إلى هذه القرية في سنة 1805 على أثر إيعاز الأمير حسن عمر شهاب إلى والده يوسف منصور الشدياق بالإقامة في كسروان بعد أن عينه مدبراً لشؤونه. فقصد يوسف هذا إلى عشقوت واشترى داري أبيه منصور وعمه بطرس من بنت الشيخ صليبي الخازن ووالدتها. لأن هاتين الدارين كان قد صادرهما الأمير ملحم شهاب الوالي ووهبهما إلى الشيخ أبي صليبي مرعب الخازن، كما ذكرنا في ما تقدم. فيكون فارس و الحالة هذه ولد في سنة 1805 بعد انتقال والديه إلى عشقوت. غير أن إقامة والديه لم تطل في هذه القرية فغادراها مع أولادهما عائدين إلى حارة الحدث في سنة 1809. وفي سنة 1810 باع يوسف داريه في عشقوت إلى أولاد الأمير يوسف بن الأمير ملحم شهاب فرحل هؤلاء من درعون إلى عشقوت وتوطنوها. ومن ذلك الحين لم يعد آل الشدياق إلى عشقوت إلا زائرين أو لقضاء فصل الصيف.

ترعرع فارس في حارة الحدث، أو حارة البطم، حيث بدت عليه مخايل النجابة و الفطنة و النبوغ. ودرس أولاً وهو في حجر والديه، وتلقن عن أخيه أسعد شيئاً من اللغة و النحو، ثم أدخل إلى مدرسة عين ورقة الإكليريكية في كسروان حيث أتم العلوم الابتدائية. وقبل أن يجاوز العاشرة من عمره نظم الشعر وأجاده. وكان مولعاً باللغة الفصحى يطالع الكتب التي كانت في مكتبة والده، وهي زاخرة بالمؤلفات النفيسة، ويقف عند كل لفظة غريبة استجلاء لمعناها وإدراكاً لمرماها. وهذا الميل إلى سبر غور الألفاظ اللغوية كان فطرياً فيه فكبر وكبر معه حتى أصبح ملكة فيه. وانتهى به الأمر إلى أن سما به إلى منزلة أئمة اللغة وجهابذة العلم، ولذلك لا نكون مغالين إذا حكمنا بعد أن قارنا بينه وبين سواه من الكتاب و العلماء بأنه أكبر كتبة القرن التاسع عشر، وفي طليعة الذين أسسوا النهضة العلمية و الأدبية الحديثة في مصر و الشام.

توفي والده في سنة 1820 وهو يافع لم يكد يناهز البلوغ، وأدرك أنه أصبح يتيماً يتعين عليه أن يعمل لنفسه بعد الاتكال على الله. فعكف على الدرس و التحصيل توسيعاً لدائرة معارفه، وأتقن الخط العربي وانصرف إلى نسخ الكتب اقتداء بطنوس شقيقه الأكبر، الذي يجيد الخط لرواج المخطوطات وقلة المطبوعات في ذلك الزمن. وحدث في خلال ذلك أن شقيقه أسعد (1798 - 1830) اعتنق المذهب الإنجيلي فنقم عليه البطريرك كما ذكرنا آنفاً. وكان فارس وقتئذ يفكر في مغادرة لبنان إلى الخارج جاداً في طلب الرزق و العلا، وكان شديد الحب لشقيقه أسعد و الأميركان يعرفون ذلك فلجأ إليهم ورأوا أن من وراء شدهم لأزره فائدة محققة لهم فأرسلوه إلى مصر في سنة 1825 لتعليم المرسلين الأميركان فيها اللغة العربية وقواعدها فشد الرحال إليها وحاكمها يومئذ محمد علي باشا مؤسس الأسرة العلوية (2). هجرته إلى مصر – وفي انبثق فجر نبوغه فما كاد يستقر به المقام حتى انكب على العلم يطوي الأيام و الليالي في الدرس و التحصيل و التعليم إلى أن أتم علومه العربية وسواها.وكان يكثر من مطالعة كتب اللغة والأدب من منظوم ومنثور ولا سيما ما انطوى منها على التعليق الذي يبين مآخذ الكلام من اللغة. وطالع ديوان المتنبي مراراً فاشتد ولعه بالشعر وانصرف إلى نظمه خصوصاً في المدح و الهجاء و الغزل و الحماسة. وأربى ما نظمه على 22 ألف بيت من الشعر الجيد.وتمكن من علوم اللغة، كالنحو و الصرف والاشتقاق و المنطق، تمكناً جعله مرجعاً فيها جميعاً. وكان كثير الاختلاط بعلماء مصر، ولا سيما بالشيخ محمد شهاب الدين ونصر الله الطرابلسي الحلبي، وهما من كبار الأستاذة الذين كان يعجب بعلمهم ويأخذ عنهم. وهذا ما مهد له السبيل إلى الاتصال برجال معية عزيز مصر وإحراز ثقتهم مما أدى إلى أن يعهد إليه في تحرير الوقائع المصرية بدلاً من العلامة رفاعة رافع الطهطاوي. فانصرف إلى عمله بهمة لا تعرف الكلال حقبة من الزمان أبدى فيها من آيات الذكاء و العبقرية ما أكسبه احترام الحكام وجهابذة العلم وسما به إلى مكانة رفيعة عجز دونها كثيرون ممن تقدموه في خدمة الإمارة المصرية أو عاصروه من رجال العلم و الفضل.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير