إننا نعذر الشدياق على مدحه، ففي ((بانت سعاد)) لم يكن كعب أعلى منه كعباً، ولو أتيح لشعراء المناسبات عندنا جزء من مليون مما ناله الشدياق لعذرناهم وصفقنا لهم. ولكنهم، ويا للخجل، كالقرداين يمدحون الناس ويشتهون الرغيف في يد من يضمه ويشمه كبخيل أبي نواس.
شقي أحمد أولاً، ثم فاز أخيراً بهذا الشعر الذي كان خير بضاعة عصره – لا تنسى أني قلت عصره.
– فاسمعه يصف شقاءه، ولاحظ وأنت مار في هذه البيوت الشعرية، ما فيها من تقليد أعمى:
سميري من وجه النهار يراعة وليليَ درس الصحف من كل كاذب
فيا لك من يوم كريه صباحه ويا لك من ليل بطيء الكواكب
كأني في حلق الزمان شجا فلم يزل لافظاً بي أرض من لم يبالي بي
أما في الورى من عادل غير أما فيهم من صاحب غير حاصب
أما حين ضحك له الدهر بهذا الشعر وحمله الباي على بارجة حربية لأجل (زارت سعاد) فقال:
ما كنت أحسب أن الدهر ترك للشعر سوقاً ينفق فيه. ومضى قدماً في السياسة يأخذ بثأر أبيه وجدوده. كان الإمام متشائماً قبلما صلحت حاله وكثر ماله، فشكا الدنيا قائلاً:
إن تبتسم دنياك يوماً فلا تركن إليها إنها آلقه
فربما شاقك برق سرى مبتسماً يتبعه صاعقة
ولكن الصواعق زالت، و الحمد الله، وجاءت الديم، وسكن الشاعر القصور الشاهقة في الآستانة العلية بعد ذلك الكوخ المالطي الذي قال فيه:
تعالوا وافقهوا عني ثلاثاً تعلمكم مراعاة النظير
خلاقي،ثم جسمي،ثم بيتي صغير في صغير في صغير
وشاعرنا ماجن مهذب في شعره – إلا إذا هجا – متهتك وقح في نثره، وقد عرفنا بنفسه يوم كان شقيّاً:
ما زارني إلا خليع ماجن فدع الحياء إذا حضرت حصيري
إن الحياء أخو النفاق وما صفت دون المجون سرير لعشير
وللمرأة في أدبه، شعراً ونثراً، أوفى نصيب، فهو كالحطيئة، للأنثى عنده حظ الذكرين. وقد أنبأنا في مقدمة فارياقه أنه بناه على أساسين: المرأة واللغة وفي المرأة يقول متشوقاً متحرقاً:
أصبحت في غرفتي رهن الهموم فما يعتادني غير أشجاني و أوطاري
أرى لكل امرئ أنثى تؤانسه وليس عندي من أنثى سوى النار
ويذكرني شقاؤه في أول شأنه ما كتبه ويكتبه الشاعر أحمد الصافي النجفي، فاسمع وصف الشدياق لشقائه ذاك:
غدَا بيتي كثير الفرش لمّا تهلهل فيه نسج العنكبوت
فلا عجب إذا ما قلت يوماً لكيد الناس: إني ذو بيوت
ولكنه ينتقم لسوء حاله فيقول أيضاً:
يراني الناس في كوخ حقير فيحتقرون منزلتي احتقارا
فهل يا قوم عندكم المعالي علو مباءة تحوي حمارا
والأستاذ الذي لا يملأ عيني شعره، وخصوصاً المدحي منه، ينخدع ويقول لنا:
من ظن أن مفاعلن متفاعلن سر القريض فجهّزنَّ به إلى
ثم يسمعنا شعر المديح الذي بوَّاه سدة اعتبار وإجلال يتمناها كثيرون من رؤساء حكومات العالم اليوم، فهل غير يا ترى بعد الميسرة فصار كالناس الذين قال فيهم:
الناس في الدنيا على رأي إذا هم أعسروا
لكنما أهواؤهم شتى إذا هم أيسروا
يحدثنا التاريخ أن شاعر زمانه كان لسان قومه في الآستانة ثم إليه يرجعون.كان بيته مفتوحاً لهم، ولكننا لم نقرأ شيئاً عن كرمه. أما مروءته فكانت كاملة فهو لم يتقاعد عن نجدة، ولم يتهاون بداع من أبناء جلدته. وآخر ما نقوله في شعره أنه كان جاهلياً في إغرابه، عباسياً في مدحه ومجونه، شامياً في تصوره وتفكيره. حاول التجديد في الشعر، ثم مشى على بلاط ملوك عصره في نعال مشركة. يدل نظمه على قلة تنقيح، وهو لو نقح لنفض عن شعره هذه اللزقات الأميركية التي لا تخلو منها قصيدة، فكأنه عدو للموسيقى الشعرية، مع أنه كان يعزف على الطنبور. وقصص طنبوره كقصص مداس أبي القاسم. وفي كل حال هو أمتن شعراء زمانه، يضعف شعره حين يمدح، ويسرح في المراسلة، ويشتد في الهجو حتى يكاد يخلو من الحشو، ويتساقط كأنه حجارة المنجنيق. وقبل أن أدع شاعريته التي لا أجل نتاجها وإن كانت أسعدته وابنه وحفيدته التي تعيش اليوم في إنجلترا عيشة اللوردات، أحب أن أذكر بيتين لا يستهان بهما، قد أعجب بهما أحمد حتى عدا طوره وحتى تخلق بأخلاق ابن الأثير حين ذكرهما فقال:
لا يحسب الغر البراقع للنسا منعاً لهن عن التمادي في الهوى
إن السفينة إنما تجري إذا وضع الشراع لها على حكم الهوى
¥