رحم الله شيخنا وغفر له، فقد كان يرى العالم كله في المرأة، وقد قال في بنات حواء: إنهن زخرف الكون، بل أقول غير متحرج عرف الآلهة، إذ لا يكاد الإنسان يبصر جميلة إلا و يسبح الخالق. (الساق على الساق، ج1، ص14).
الرحالة السياسي:
قال عن نفسه:
لقد طفت في الدنيا على غير طائل فلما بدا عجزي أنبت (جوائبي)
فيا ليت شعري و النوائب جمة أيخفق كل من منيب ونائب
فارس الشدياق ابن بيت لبناني عريق، عالج ذووه السياسة في الدنيا والدين –كما علمت– فعركتهم عرك الرحى بثفالها، مات جده وأبوه وأخوه شهداء حرية الفكر و الميل،وهو أحد مشردي هذا البيت. قضى عمره مجاهداً، لم يدع قطراً في الشرق و الغرب إلا حلته ركابه، وكتب عنه بعين لاقطة لا يفوتها شيء، فكأنها عدسة المصور، ففي الواسطة وكشف المخبأ و الفارياق صور شتى لأحوال الشرق و الغرب. وإن أكبرنا جهاد المتمشرقين فلا حرج علينا أن نكبر أكثر منهم جهاد هذا المتمغرب الذي كان إعلاناً للدماغ اللبناني بلا ثمن. وإن أفلح وصار حجة السياسة الشرقية للأوروبيين فلأن الوراثة جعلت منه سياسياً عظيماً، يحسن تعليل الأمور بعقله الثاقب.وليست سياسة العالم بأصعب من سياسة لبنان المختلفة بضاعته الطائفية، كمخازن ألف صنف وصنف. وأصدق دليل على تمسك الفارياق بأذيال السياسة رسائله التي كانت ترد على أصحابه وذويه، فهي تنبئنا أن كل المتاعب لم تشغل الأستاذ عن الاستطلاع سياسة وطن مات وفي قلبه حنين إليه، وإن لم يكن يقل في ذلك شعراً. وما شرده عنه وكتبه الفارياق إلا تلك النكبة التي وقعت بأخيه أسعد، فطوحت به في الآفاق يطوي وينشر ما عنَّ له تنفسياً لكربته، فجابت ((جوائبه)) الأرض، وكانت مدرسة عامة، ليلية نهارية، للناطقين بالضاد. فصحت بها لغة عصره الفاسدة، وقامت حرب البيان على ساقها. ومن الأنين المتصاعد من [كنز الرغائب في منتخبات (ج3)] يظهر لنا إعجابه بصحيفته وتألمه من حاله:
وإن كان سعيي في الجوائب خاسراً فإني لذخر الفخر أصبحت كاسبا
فهو يرى كل ما فيها، وحاشاه، فانياً، وتلك حالة الأديب في كل زمان يرى في المجد غنى عن النقد. وكذلك الصحافي العربي، فهو هو، و المشتركين هم هم، كما يخبرنا الفارياق.
عل سطح ذي الدنيا أراني نقطة أخط خطوطاً لا تسمن لي ضلعا
وقد أعجب النقاد جمع جوائبي ولكنني للنقد لم أستطع جمعا
وما بلغت الجوائب ستة وثلاثين أسبوعاً – أي تسعة أشهر – حتى عجز الشدياق عن إصدارها، فأعلن إفلاسه في العدد السادس و الثلاثين، قائلاً: و الضمير في ((أقلت)) يعود إلى ((الدنيا)):
أقلت ذي الجوائب قدر حمل الـ ـجنين وأسقطتها في الترائب
ومن يك قرنه الإفلاس دهراً فكيف يطيعه عاصي المطالب
لقد تربت يدي عن نيل طرس أخط به من الخطط الغرائب
بكيت وليس يجديني بكاء وأرخت (انقضى درس الجوائب)
فاهتز لنجدته الصدر الأعظم فؤاد باشا، فلم ينقض درس الجوائب، وعاشت سنين، حتى قال شيخنا: الله درها .... وظلت تصدر حتى قضت الحوادث السودانية بوقفها سنة 1884، أما صاحبها فما وقف قلمه حتى الموت.
اللغوي و المصنف:
ما رأينا قبله لغوياً بحث اللغة فرد ألفاظها إلى أصول قليلة اشتبكت فروعها فصارت أدغالاً مخوفة، ولا من كشف الغطاء عن خصائص الحروف فدلنا على حكمة الواضع. فالشدياق عالم قارح، رأسه كمخازن الترنزيت التي تتكدس فيها البضائع، أو أهراء فرعون يوم أقام يوسف بن يعقوب قهرماناً له.
فهو مستودع الجرايات في هذه المجاعة. لجأ إلى ((جاسوسه)) و ((سر لياليه)) كثيرون، ففي عدل بنيامين ألف كأس يوسفية، تخبرنا أن الذين بحثوا اللغة و القواميس بعده عيال عليه، كما كانوا على الجاحظ قبله. إنهم ينهبون ولا يستحون، ويسرقون ثم ينسون أنهم سرقوا الرجل، فيدعون المعرفة غير منوهين بذكر من جاهد ثمانين حولاً ولم يسأم. فما فهمه الشدياق من أسرار اللغة لم يخطر ببال أحد، وقد كان شديد الإعجاب بسر الليال حتى أفرط في الثناء عليه، وعقد معلناً فائدته لأولي الألباب، فكان كالكريم حين يخشى أن لا تأكل من ألوان مأدبته كلها فيتولى بنفسه تشويقك وترغيبك.
¥