وإن كان كلّ هذا لا يُقنعه أوردت له شيئاً من سرّ الليال لأن كلامه يعجبه. قال (ثمّ ربضت الشاة تربض ربضاً وربضة وربوضاً كبركت في الإبل ومواضعها مرابض وهو مستغنى عنه)). انتهى. وهي عبارة صاحب القاموس. غير أنه أسقط منها الربضة لهيئة الربوض.وتدارك على المرابض بأنه يُستغنى عن ذكرها. والإشارة في الموضعين إلى أن مثل هذا يتناول بالاشتقاق فيُستغنى عنه بقواعد الصرف كما صرَّح في المقدمة فرجع إلى ما قرَّرته من الأخذ بالاشتقاق. ولا ريب أن المشتق لا يكون إلا بعض المشتق منه كما تقدَّم فانطبقت المرابض على معنى الربوض. وإلا لزم أن يقرّرها ويستدرك عليه أنه لم يقيّدها بالغنم وفاقاً لاعتقاده.
وقال بعد ذلك: ((وعبارة المصباح ربضت الدابّة ربضاً وربوضاً وهو مثل بروك الإبل. والرَبَض محرَّكة و المربض كمجلس للغنم مأواها. اهـ.)) مع تصرّفٍ. فأطلق في الأول وقيّد في الثاني. وفي فقه اللغة في تقسيم الجلوس: جلس الإنسان. برك البعير. ربضت الشاة، إلخ. ولم يذكر المربض في تقسيم الأماكن. انتهى كلامه.فقد رأيت أنه أنكر على صاحب القاموس ذكر المرابض كما أشرت آنفاً.
ثمَّ أنكر على صاحب المصباح الإطلاق في الأول و التقييد في الثاني، يعني إطلاق الفعل و تقييد الظرف مع أنه عين ما يحاوله الآن. وصرح بأن صاحب فقه اللغة لم يذكر المربض في تقسيم الأماكن. فمن قال له بعد كل هذا إنها خاصّة بالغَنَم. لا جَرم أن هذا هو عين المكابرة و العناد. ويجري هذا المجرى تخصيصه المرابط بالخيل هناك و الظاهر أنه لا يعرف منشأ هذا التخصيص ولا كيفيته ولا مواقعه وذلك من مثله غريب. وهو إنما يقع أحياناً في المترادفات فيفرّق بينها على هذا الأسلوب تفريقاً اعتبارياً تحسن معرفته ولا تجب مراعاته دائماً.قال الإمام الثعالبي في تقسيم الأماكن: وطن الناس، مراح الإبل، اصطبل الدواب، زرب الغنم، هلمّ جرّاً. ولكن أئمة اللغة قد تصرَّفوا في هذه المختصات حتى في تعريفها في كتب اللغة.
فإن الوطن مما ذُكر يطلق على غير الناس أيضاً، ومنه ما مرَّ بك في تفسير العَطَن حيث قيل هو وطن الإبل وقالوا أوطان الغنم أيضاً مرابضها. وغير ذلك، وفسّر بعضهم المُراح قال: هو حيث تأوي الماشية بالليل. وقال الآخر. حيث تأوي الإبل و الغنم. وقس على ما ذُكر ما لم يُذكر. وعلى ذلك جرى صاحب فقه اللغة عينه في نفس كتابه الذي جمع فيه هذه القيود فاستباح ما نصّ على تقييده. ألا تراه يقول مثلاً: فصلٌ في تقسيم النسج. ثمَّ يقول نَسَج الثوب. رَمَل الحصير. سفَّ الخُوض، إلى آخره. فصلٌ في تقسيم الخياطة. ثم خاط الثوب. خَرَز الخفَّ. خَصَفَ النعل إلى آخره. فصلٌ في تقسيم الرعدة: ثمَّ الرعدة للخائف و المحموم. الرِعشة للشيخ الكبير و المدمن للخمر. القرقفة لمن يجد البرد الشديد إلى آخره. ومثل هذا كثيرٌ في كتابه أفنعدّه خطأ منه. وقال بِشر ابن أبي حازم:
يخرجنَ من خلل الغبار عوابساً خَبَبَ السباع بكل أكلف ضغيم
وفي فقه اللغة وغيره أن الخَبب للخيل. وهذا من باب المرابض للغنم. وقال النابغة الذبيانيّ:
إذا استنزلوا للطعن عنهن أرقلوا إلى الموت إرقالَ الجمال المصاعبِ
أطلق الإرقال على الرجال، وفي فقه اللغة أنه للجمال كما صرَّح في عجز البيت. وقال عمرو بن كلثوم:
متى نعقد قرينتنا بحبل تجذّ الحبلَ أو تَقِص ِ القرينا
و الذي في فقه اللغة حَذَق الحبل. وأمثال كل ذلك لا تُحصى. والأظهر أن من قال بالتقييد إنما يريد إظهار أصل الوضع فقط وإلا لزم الحكم بخطأ من لا يُسّلم بخطئه. فتأمل.
وعلى فرض أن المربض هما من هذا الباب فقد علمت أن القوم لم يعتدّوا بشيءٍ من ذلك. على أنه شتّان بين الجانبين، لأن المربض مشتقٌ من ربط الشيء بمعنى شدّه فهو يدل على موضع الربض. وإذا قلنا المربض فإنما نريد موضع الربوض فكلّ منهما يُستعمل بما يراد من معناه الوضعيّ. وقد تقرّر بتسليم صاحبنا أن الربوض يتناول الخيل كما يناول غيرها، فإن لم نعبّر عن موضع ربوضها بالمربض فماذا يريد هذا البارع أن يقول.
قلت ُ: وهذه المسألة أشبه بما وقع لبعضهم قال: لا يقال الراكب إلا لراكب البعير خاصّة. فردّ بقول امرئ القيس الكنديّ:
كأنيَ لم أركب جواداً ولم أقل لِخيليَ كرّي كرّة بعد إجفال
¥