الإجماع هو الأصل الثالث من أصول أهل العلم بعد الكتاب والسنة، ولقد اتفق أهل العلم من أهل السنة على «حجية الإجماع» ونصوا عليه في كتبهم، ولم ينكر هذا الأصل سوى بعض المبتدعة وأهل الضلال كالنظام -أحد أئمة المعتزلة-، والإمامية، وبعض الخوارج.
ولئلا أطيل الكلام هنا فأنقل فقط أقوال الأئمة الأربعة -رحمة الله عليهم- في الإجماع وبالخصوص إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم ():
قول الإمام أبي حنيفة (80 - 150هـ):
قال يحيى بن معين: حدثنا عبيد بن أبي قرة قال: سمعت يحيى بن ضريس يقول: شهدتُ سفيان، وأتاه رجل فقال: ما تَنْقِم على أبي حنيفة؟ قال: وماله؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فما لم أجد، فبسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنةٍ آخذ بقول أصحابه، آخُذُ بقول من شئتْ منهم، وأدعُ قول من شئت، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا ما انتهى الأمر -أو جاء الأمر- إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب -وعدّد رجالاً- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا.
قال: فسكت سفيان طويلاً، ثم قال -كلمات برأيه ما بقي أحد في المجلس إلا كتب-:
نسمع التشديد من الحديث، فنخافه، ونسمع اللّين، فنرجوه، لا نحاسب الأحياء، ولا نقضي على الأموات، نسلِّم ما سمعنا، ونكل ما لم نعلم إلى عالمه، ونتهم رأينا لرأيهم. (تاريخ يحيى بن معين، رواية الدوري 4/ 63 - 64 رقم3163).
وقال أبو حنيفة: إذا أجمعت الصحابة على شيء سلمنا، وإذا أجمع التابعون زاحمناهم. (إرشاد الفحول 318).
وقول الإمام مالك بن أنس (93 - 179هـ):
قال الإمام مالك -وذُكر له الموطأ-:
فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة، والتابعين، ورأيي وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره (ترتيب المدارك 2/ 73).
وقال أبو الحسن القصّار المالكي (397هـ):
إن مذهب مالك -رحمه الله- وسائر العلماء القولُ بإجماع الأمة. (المقدمة في الأصول 75).
وقال القاضي عبدالوهاب البغدادي المالكي (422هـ):
اعلم أن الكلام في هذا الموضع هو أن إجماع الصحابة حجة يجب اتباعه، ويلزم الانقياد له، وتحرم المخالفة عليه، وهذا لا خلاف فيه في الصدر الأول وفقهاء الأمصار، وأئمة العلم في سائر الأعصار، وإنما حدث الخلاف عند قومٍ من المعتزلة والرافضة ... (رسالة الإجماع- ملحق مطبوع آخر كتاب المقدمة في الأصول للقصار المالكي - ص: 259).
وقول الإمام الشافعي (150 - 204هـ): -في قوليه القديم والجديد كليهما-:
قال في القديم: في «الرسالة» القديمة، بعد ذكْره الصحابة -رضي الله عنهم- والثناء عليهم بما هم أهله-:
فقال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استُدرك به علمٌ واستُنْبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا، ومن أدركنا ممن نرضى، أو حكي لنا عنه ببلدنا، صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سُنّة إلى قولهم إذا اجتمعوا، وقول بعضهم إن تفرقوا، فهكذا نقول: إن اجتمعوا أخذنا بإجماعهم، وإن قال واحدهم قولاً ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، إن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم نخرج عن أقاويلهم كلهم.
قال: وإذا قال الرجلان منهم في شيء قولين مختلفين نظرتُ، فإن كان قول أحدهما أشبه بكتاب الله، أو أشبه بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلمأخذتُ به، لأن معه سبباً تقوى بمثله ليس مع الذي يخالفه مثله، فإن لم يكن على واحدٍ من القولين دلالة بما وصفت كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان -رضي الله عنهم- أحبّ إليَّ أن أقول به من قول غيرهم إن خالفهم من قبل أنهم أهل علم وحكام.
ثم قال بعد ذلك: فإن اختلف الحكام استدللنا بالكتاب والسنة في اختلافهم، وصرنا إلى القول الذي عليه الدلالة من الكتاب والسنة، وقلما يخلو اختلافهم من دلائل كتاب أو سنة، وإن اختلف المُفْتَون -يعني من الصحابة- بعد الأئمة بلا دلالة فيما اختلفوا فيه. (قال المحقق: كذا بالأصل فليحرر).
وإن وجدنا للمفتين في زماننا وقبله اجتماعاً في شيء لا يختلفون فيه تبعناه، وكان أحَدَ طُرُق الأخبار الأربعة، وهي: كتاب الله، ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم القول لبعض الصحابة، ثم إجتماع الفقهاء.
¥