ومن زعم أنّ علم الحديث إذا خضتَ غِمارَه، ونزلتَ إلى ميدانه، ودخلت في حلبة فرسانه صرت تحكم وأنت في القرن الرابع عشر بما حكم به أهل القرن الثاني والثالث من غير أن ترجع إلى نصوص كلامهم، وصار نقدك كنقدهم فهو سرف وبُعد لا يقوله من له أُنْسٌ بكلام الحفاظ ومعرفة أحوال أولئك الأئمة الكبار، ومما يجب معرفته أن هؤلاء الأئمة إنما كان حكمهم على الرواة وتصحيح الاخبار بتتبعهم وإن أمكن معاينتهم، مما يتعذر على من بعدهم، وقد قال الحافظ ابن حبان في كتابه ((المجروحين)): (ولقد دخلتُ حمص وأكثر هَمِّي شأن بقية، فتتبعت حديثه وكتبت النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً؛ ولكنه كان مدلساً ... ).
وصنيع أكثر من تأخر في إعلال الاخبار وقبولها، منضبط بانضباط قواعد دونت في كتب الاصطلاح، أخذت من كلام الحفاظ المتقدمين، وما لا ينضبط وهو كثير ولا يمكن تدوينه كأصول مضطردة على كل حال وقع فيه الخلل والضعف والاضطراب، والجرأة على الحفاظ، بتصحيح ما أعلوه، وإعلال ما صححوه، وهذا لا يخلو منه باب من أبواب الحديث، ولا يسلم باب من أبواب الاصطلاح إلا وفيه مسائل ندت عن تلك القواعد الاصطلاحية، وأكثر هذه المسائل وروداً هي في أبواب:
1 - الإرسال والانقطاع:
، والحفاظ يُعْمِلون القرائن في قبول مثل هذا كثيراً ولا يُعْمِلون الظاهر، فطاووس في روايته عن معاذ وإن لم يدركه إلا انه من اعلم الناس به، ومثله ابراهيم النخعي في روايته عن ابن مسعود، وغيرهم.
2 - التدليس بأنواعه:
، وهو باب واسع، تشدد فيه كثير من المتأخرين، فتشددوا في إعلال خبر كل من وصف بالتدليس على أي حال كان، وهذا أمر مخالف لما عليه الأئمة الحفاظ في إعلالهم للأخبار، ومن تأمل مسائلهم ومصنفاتهم وجد ذلك ظاهراً.
3 - زيادة الثقة وقبولها،:
وقد تأثر كثير من أهل الاصطلاح من أهل الحديث بكلام اهل الكلام، فتنوعت الأقوال في هذه المسألة، بين إطلاق القبول والقبول بقيد محدد، والرد به، وهذا كله ليس هو الذي عليه صنيع الحفاظ، وهذا باب واسع جداً، والاختلاف فيه كبير.
والحق الذي ينبغي المصير إليه هو لزوم طريقة الحفاظ فيه من عدم اعتبار قاعدة تجري على كل حالة منه، بل إن هذا الباب ربما لا يكاد يجري على قاعدة، وهو أوسع وأكثر الأبواب أعمالاً للقرائن في النقد.
4 - التفرد:
وهو باب قلّما يعمله أكثر المتأخرين، بل لا تكاد تجده في كلام بعضهم، وإنما اعتبروا في ذلك ظاهر السند في الصحة، فما وثق رجاله واتصل إسناده، صَحَّ متنه عندهم، ولأجل هذا رُدّت كثير من أحكام الحفاظ بزعم عدم بيان السبب من الاعلال، وعدم بيان سبب الجرح، وأطلق بلا تقييد البعض مقولة (الجرح لا يقبل الا مفسراً).
والائمة الحفاظ كثيراً ما يعلون أحاديث ظاهر أسانيدها الصحة، وذلك لعدم سلامة المتون، أو تفرد النقلة في أصل من الأصول لا يحتمل تفردهم فيه.
وقد صنف الحفاظ في ذلك مصنفات كالدارقطني وغيره.
5 - تقوية الأخبار بالشواهد والمتابعات:
وهو باب توسع فيه أكثر المتأخرين، توسعاً كبيراً، وصحح بعضهم أحاديث لم يسبقهم الى تصحيحها أحد من أهل العلم، بل من تأمل كلام المحدثين المتأخرين في هذا الباب كالحافظ السخاوي والسيوطي والمناوي وغيرهم يرى هذا ظاهراً جلياً، فترى أحاديث الأئمة المتقدمون على تضعيفها ولا يعلم لمن صححها سلف، إلا أنها لما تباينت وتكاثرت طرقها الواهية صُحِّحَت لأجل هذا، وهذا منهج لا يعمله الأئمة المتقدمون في مثل هذه الاحاديث، بل إن الناظر في كلامهم لا يكاد يقف على شيء من هذا الباب إلا في النادر، بخلاف ما عليه المتأخرون من توسع في هذا الباب، في مقابل تشدد في أبواب يتسامح فيها الأئمة كالتدليس والانقطاع وغيره.
وغير هذا من الابواب كالمخالفة في الطرق، ورواية خفيفي الضبط، والمجاهيل، وأهل البدع، ونحو ذلك مما يطول ذكره.
والحديث في منهج الائمة الحفاظ، بحاجة لكلام أوسع وتفصيل كبير.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفات العلى أن يرزقني وإياك الأخلاص في القول والعمل، فهو مناط النجاة إذا صلح العمل، وصلاحه باتباع ما عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز الطَّريفي.
14/ 11 / 1423
ـ[أبو محمد الموحد]ــــــــ[10 - 04 - 04, 09:40 م]ـ
لله درك شيخنا عبدالله على فوائدك ونفع بك، وسدد سهمك، وبارك الله في شيخنا عبدالعزيز الطريفي