ويقول الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح بعد كلام له حول تعليل القدماء لبعض الأحاديث: وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه)) ().
وهذا كلام خبير عارف مارس كلام المتقدمين وعرف قدره ودقته، ومن هذا كان لزاماً على محدثني عصرنا – من باب أولى – العناية بمنهج المتقدمين والتسليم لهم وترك التطاول عليهم كما نراه – مع الأسف – من بعض من سلك التصحيح والتضعيف للأحاديث.
فهذا ابن حجر على حفظه وعلو كعبه وهو ممن أرسى علوم مصطلح الحديث وأبدع وأتقن الكلام فيها، يقول: هذا الكلام النفيس فما بالك من أهل زماننا في وقت ضعف فيه الحفظ وانعدم الضبط أو كاد؟ ولعلي هنا ألخص أهم الأسباب التي تدعو إلى الأخذ بمنهج المتقدمين وتقديمهم.
1 - سعة حفظهم وتمام ضبطهم:
وهذا بابٌ يطول منه العجب، فهذا الإمام البخاري رحمه الله تعالى يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (). وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي: قدم علينا محمد بن إسماعيل فقال له رجل من أصحابنا: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي، فقال له محمد بن إسماعيل: أو تعجب من هذا القول؟ لعلّ في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف ألفٍ من كتابه، وإنما عنى نفسه ().
وهذا أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى أقسم رجل بالطلاق أنه يحفظ مائة ألف حديث، فقالواله: طلقت زوجتك، ثم سألوا أبا زرعة فقال: قولوا له يمسك زوجته (). وهذا يحيى بن معين يقول: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث ()، وهذا الإمام أحمد قال عنه أبو زرعة: كان يحفظ ألف ألف حديث فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرْته فأخذت عليه الأبواب ().
وأخبارهم في هذا مشهورة، ومن قرأ مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ومقدمة الكامل لابن عدي عرف ذلك.
2 - كثرت ممارستهم للحديث ومدارستهم له بحيث صارت عندهم ملكة يميزون بها ألفاظ
النبي ? من غيرها.
فألفاظ النبوة لها نور فيدركها من طالت ممارسته وكثر حفظه. يقول الأوزاعي: ((كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا)) ().
وقيل لعبدالرحمن بن مهدي: إنك تقول للشيء: هذا يصح وهذا يثبت، فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال: هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأله عن ذلك أو تسلم الأمر إليه؟ قال: لا، بل كنت أسلم الأمر إليه، فقال: فهذا كذلك لطول المجادلة والمناظرة والخبرة)) ().
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم فيهم ومعه دفتر فعرضه علي فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب وسائر ذلك أحاديث صحاح، فقال: من أين علمت أن هذا خطأ وأن هذا باطل وأن هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا وكذا؟ فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو غيرَ أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا باطل، وأن هذا كذب، فقال لي: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت: نعم. قال: هذا عجب، فأخذ يكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث ثم رجع إلي وقد كتب ألفاظاً ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث، فما قلت إنه باطل قال أبو زرعة: هذا كذب، قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت: إنه كذب، قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت: إنه منكر قال: هو منكر كما قلت، وما قلت: إنه صحاح قال أبو زرعة هو صحاح. فقال: ما أعجب هذا تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟ فقلت: قلت لك: إنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة أوتيناه والدليل على صحة ما نقوله أن ديناراً نبهرجاً - يعني زائفاً - يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج ويقول لدينار هو جيد: هذا جيد
¥