زرعة هو صحاح. فقال: ما أعجب هذا تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟ فقلت: قلت لك: إنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة أوتيناه والدليل على صحة ما نقوله أن ديناراً نبهرجاً - يعني زائفاً - يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج ويقول لدينار هو جيد: هذا جيد ... إلخ)) () فهذه القصة تدل على قدر ما أوتي المحدثون الأوائل من المعرفة والفهم والتوفيق الرباني.
3 - قربهم من الرواة ومعاصرتهم لكثير منهم:
فهذا مما يوجدب تقديم أقوالهم. ورحم الله الذهبي حين قال - فيما سبق نقله عنه -: ((وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة)). ولقد كان المحدثون الأوائل يعتنون بما سمعوه من شيوخهم ويحققون فلا يأخذون ما فيه تدليس كما روى عن شعبة أنه كان يرقب فم شيخه قتادة، فإذا صرح بالتحديث والسماع كتب ()، بل كان بعضهم يسأل شيخه هل سمع هذا الحديث ممن فوقه أو لا؟ فمن ذلك ما رواه أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن عمرو عن جابر قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله ? والقرآن ينزل)) فقلت - أي شعبة -: أنت سمعته من جابر؟ قال - أي عمرو –: لا ().
ومن دقة المحدثين الجهابذة الأوائل أنهم كانوا يضعفون أحاديث بعض الثقات في بعض شيوخهم دون بقيتهم مثل حماد بن سلمة في روايتة عن قيس بن سعد قال أحمد: ضاع كتابه عنه فكان يحدث من حفظه فيخطئ، وكذا ضعف يحيى القطان روايات حماد بن سلمة عن قيس بن سعد ورواياته عن زيد الأعلم ()، وكذ تكلم أحمد في روايات جرير بن حازم عن قتادة ()، والأمثلة على هذا كثيرة بل جعلوا من هذا القبيل أنواعاً فمنها: من ضُعِّف حديثه في وقت دون آخر، ومنها: من ضُعِّف حديثه في مكان دون آخر، ومنها: من حدث عن أهل مصرٍ فحفظ حديثهم وحدث عن غيرهم فلم يحفظ، ومنها من حدّث عنه أهل مصرٍ فحفظوا حديثه وحدث عنه غيرهم فلم يقيموا حديثه، وأقرأ هذه الأنواع وأمثلتها لترى عجباً في شرح العلل لابن رجب ().
4 - جمعهم للطرق ومعرفتهم بالعلل.
وبمعرفة طرق الحديث تتبين علله كما قال علي بن المديني رحمه الله – وكان إماماً في العلل -: الباب إذا لم تجمع طرقه يتبين خطؤه ()، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانتهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط ().
وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى: إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضها ببعض (). أقول: وهكذا كان الأئمة الجهابذة كالإمام أحمد وابن معين وعلي بن المديني والبخاري وأضرابهم كانوا على معرفة بطرق الحديث، ولذلك تجدهم يعلون بعض الطرق بسبب معرفتهم بطرق أخرى، من ذلك ما ذكره العلائي أن الأعمش روى عن أبي وائل عن عبدالله – يعني ابن مسعود -: ((كنا لا نتوضأ من موطئ))، قال الإمام أحمد: كان الأعمش يدلس هذا الحديث، لم يسمعه من أبي وائل، قال: فهنا قلت له: وعمن هو؟ قال: كان الأعمش يرويه عن الحسن بن عمرو الفقمي عن أبي وائل فطرح الحسن بن عمرو وجعله عن أبي وائل ولم يسمعه منه (). والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
مدخل: ((شروط الاحتجاج بالحديث)).
من المهم قبل الكلام في هذا الموضوع أن أتطرق للشروط التي اشترطها العلماء للحديث الصحيح والحسن والتي أسسوا عليها بنيان التصحيح أو التحسين وبانخرامها أو بعضها ضعفوا الأحاديث.
وهذه الشروط التي ذكرها من ألف في مصطلح الحديث قديماً وحديثاً بناء على نص من المتقدمين من المحدثين أو استقراءاً من صنيعهم وتعاملهم مع السنة.
فأقول: الشروط التي ذكروها للحديث الصحيح خمسة:
1 - عدالة الرواة.
2 - اتصال السند.
3 - السلامة من الشذوذ.
4 - السلامة من العلل القادحة ().
وهذه الشروط ينص عليها العلماء أو يذكرونها ضمن تعريف الحديث الصحيح، يقول ابن جماعة: أعلم أن الحديث الصحيح: هو ما اتصل سنده برواية العدل الضابط عن مثله وسلم من شذوذ وعلة ().
أما الحسن فإنه وإن اختلفت تعريفاتهم له كما هو معلوم عند الترمذي والخطابي وغيرهم إلا أن العلماء وجهوا ذلك كما فعل ابن الصلاح () وابن جماعة () ومن بعدهم، فجعلوا الحسن قسمين: الحسن لذاته هو ما توفرت فيه الشروط السابقة إلا أن ضبط راويه خف فليس هو بالمتقن ().
¥