تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذا يُفسّر لك معنى قول الحاكم: «ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية، ولا وجدنا هذا المتن –بهذه السياقة– عند أحدٍ من أصحاب أبي الطفيل، ولا عند أحد ممن رواه عن معاذ بن جبل عن أبي الطفيل. فقلنا الحديث شاذ». وانتبه كثيراً لقول الحاكم "بهذه السياقة" لأن هؤلاء كلهم رووه بغير هذه السياقة، ولذلك عرفنا أن الحديث شاذ. ولو لم يروِ هؤلاء هذا الحديث بالمرة (لا بهذه السياقة ولا بغيرها)، لصار الحديث غريباً وخرج أن يكون شاذاً (إن استثنينا الشذوذ في المتن).

وسياق الحديث الصحيح أخرجه مالك في موطئه (1\ 143): عن أبي الزبير المكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبره: «أنهم خرجوا مع رسول الله ? عام تبوك. فكان رسول الله ? يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. فأخّر الصلاة يوماً، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً». وأخرجه –مختصَراً– مسلم في صحيحه (1\ 490 #706): حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن أبي الطفيل عامر عن معاذ قال: «خرجنا مع رسول الله ? في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً». (#706): حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا خالد –يعني ابن الحارث– حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبو الزبير حدثنا عامر بن واثلة أبو الطفيل حدثنا معاذ بن جبل قال: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء». فقلت: «ما حمله على ذلك؟». فقال: «أراد أن لا يحرج أمته». انتهى.

وقد تتابع الحافظ على إنكار هذا الحديث. قال أبو داود في سننه (2\ 7): «لَمْ يروِ هَذَا الْحَدِيْث إلا قتيبة وحده». ونقل الدارقطني هذا في سننه (1\ 392). وفي رواية اللؤلؤي لسنن أبي داود أنه قال: «هذا حديثٌ منكَر. وليس في تقديم الوقت حديثٌ قائِم». وكذلك أثبته عنه ابن حجر في تلخيص الحبير (2\ 49). فهذا إعلالٌ للحديث بالشذوذ. وقال الترمذي عن هذا الحديث في سننه (2\ 438): «حسن غريب، تفرّد بِهِ قتيبة. لا نعرف أحداً رواه عن الليث غيره. وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ حديثٌ غريب. والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ: من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي ? جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء (يعني: وليس فيه جمعُ تقديم). رواه قرة بن خالد وسفيان الثوري ومالك وغير واحد عن أبي الزبير المكي» يعني الذي أخرجه مسلم ومالك. وقال الذهبي في السير (11\ 22): «وأمَّا النَّسَائِيُّ، فامتنعَ مِن إِخراجِهِ؛ لِنَكَارتهِ». وقد ذكر الحاكم أن النسائي حدث به، لكن هناك فرق بين هذا وبين إخراجه في كتابه السنن.

قال البيهقي في سننه الكبرى (3\ 163): «تفرد به قتيبة بن سعيد عن ليث عن يزيد». ثم نقل اتهام البخاري لخالد المدائني بوضع الحديث، ثم قال البيهقي: «وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل (التي رواها قتيبة عن الليث عن يزيد). فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة». وهذا القول سمعه بعض الفقهاء ممن ليس لهم فهم في الحديث، فظنوا أن البيهقي قد صحح حديث قتيبة! مع أن كلامه عن رواية أبي الزبير التي في الصحيح، أما رواية قتيبة فهو نفسه أعلها بالتفرد ونقل كلام البخاري بأنها موضوعة. فكيف ينسبون له تصحيحها؟!

ومن المهازل أن نرى الفقهاء يقولون في كتبهم عن هذا الحديث: «أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم»! ثم يقولون: «قال الترمذي حديث حسن، وقال البيهقي هو محفوظ صحيح»!! وقد بيّنّا أنه لم يصححه أو يحسنه أحدٌ من هؤلاء. أما أبو داود فقد أنكره وضعفه، وأما الترمذي فقد قال "حسن غريب" ثم بيّن ضعفه. والبيهقي أشار لوضعه ونكارته. والدارقطني تكلم عليه بكلام طويل وأشار إلى نكارته. والحاكم هو أكثر من فصّلَ في أن الحديث موضوع. فظهر لك كيف أن الفقهاء بضاعتهم مزّاجة. لم يتوقف الأمر على جهلهم في الحديث، لكنهم لم يعرفوا ولا حتى التقليد في نقل الأقوال عن علماء الحديث.

وقد ضعف ابن حزم هذا الحديث بسبب انقطاع سنده، وبسبب تضعيف البخاري له. لكن ابن حزم شذّ بإضافة سببٍ جديدٍ لتضعيف الحديث بطعنه في الصحابي الجليل أبي طفيل! فقال عنه في المحلى (3\ 174): «أبا الطفيل صاحب راية المختار، وذُكِر أنه كان يقول بالرجعة». قلنا إنما خرج مع المختار على قاتلي الحسين ? لأخذ الثأر منهم، ولم يَعلم من المختار الإيمان بالرجعة. قال ابن القيم في "حاشيته على سنن أبي داود" (1\ 181): «وقد طعن أبو محمد بن حزم في أبي الطفيل، وردّ روايته بكونه كان صاحب راية المختار أيضاً. مع أن أبا الطفيل كان من الصحابة. ولكن لم يكونوا يعلمون ما في نفْسِ المختار وما يُسُرّه». وطعنه في عدالة الصحابي أمر جد خطير مخالف للجمهور خاصة في مسألة هو المخطئ فيها. وصحبته ثابتة لا مطعن فيها. وقد أخرج له الأربعة حديثه. بل قد أخرج له مسلم في صحيحه (4\ 1820) قوله: «رأيت رسول الله ?، وما على وجه الأرض (أي اليوم) رجل رآه غيري». ولذلك لا يؤخذ ما تفرد به ابن حزم من رأيٍ في الرجال.

وقد سبق وقلنا أن الذي لم يعرف علة الحديث، أعلّه بمجرد الشذوذ. وقد اجتمع في هذا الحديث التفرد بالإسناد والتفرد بالمتن. لذلك قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (12\ 467): «لَمْ يروِ حَدِيْث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن الليث: غَيْر قتيبة. وهو مُنكَرٌ جداً من حديثه. ويَرَوْنَ (أي علماء الحديث) أن خالداً المدائني أدخله على الليث، وسمعه قتيبة معه». وقد أعله الطبراني أيضاً فقال في المعجم الصغير (1\ 391): «لم يُروى هذا الحديث عن معاذ، إلا بهذا الإسناد. تفرد به قتيبة». لكن كثيراً من المتأخرين لم يفهم معنى كلام هؤلاء الحفاظ. فتجدهم يقولون أن التفرد لا يضر لأن قتيبة ثقة، وتفرد الثقة مقبول كما هو مُقرّرٌ في كتب المصطلح! أقول: وقد سبق وبينا –في أول هذا البحث– الاختلاف في تعريف الحديث الشاذ بين المتقدمين والمتأخرين.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير