تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

معلوم أن لكل واحد من الشيخين - بل ولكل من صنف في الصحيح - شروطاً في العدالة وفي الضبط وفي الاتصال وفي السلامة من الشذوذ والعلة والاضطراب؛ ومعلوم أن كل مصنف لا تعرف شروطه إلا بنص منه أو باستقراء من غيره لكتابه؛ ولم ينص الشيخان على شرطهما في العدالة ولا في غيرها من شروط الصحيح، إلا ما كان من مسلم فإنه بين شرطه في الاتصال، وله بعض بيان لشرطه في مراتب الرواة في الجملة.

وأما البخاري فقد روى المزي في (تهذيب الكمال) (24/ 442) عن السعداني قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: قال محمد بن إسماعيل: أخرجت هذا الكتاب يعني الصحيح من زهاء ستمئة ألف حديث.

ثم روى عن ابن عدي قال: سمعت الحسن بن الحسين البخاري يقول سمعت إبراهيم بن معقل يقول سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: (ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول).

فهذا تصريح بمجمل شرطه لا بتفاصيله؛ ولكن استقرأ العلماء الصحيحين فعلم بالاستقراء ثلاث مرجحات لصحيح البخاري على صحيح مسلم:

الأول: أن رجال البخاري أوثق، ثم إن المتكلم فيهم من رجاله أقل عدداً من المتكلم فيهم من رجال مسلم، ثم إن البخاري لم يكثر من إخراج حديثهم؛ ثم إن غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم؛ بخلاف مسلم في الأمرين.

والحاصل أن رواة البخاري المتكلم فيهم أقل بكثير ثم إنه لقلة إخراجه عنهم صارت أحاديثه المتكلم فيها بسبب رواتها أقل بكثير جداً؛ ثم إن ذلك الكلام أخف لأنه أكثر معرفة بهم وأحسن انتقاء من أحاديثهم.

الثاني: أن أسانيد البخاري عن الانقطاع أبعد. ويأتي تفصيل هذه المسألة في غير هذا الموضع.

الثالث: أن أحاديثه من العلة والشذوذ والاضطراب أسلم، وذلك لأن شروط البخاري أشد؛ ولأن معرفته بالرواة وبأحاديثهم أكمل.

هذا واعلم أن تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم هو أصحية أحاديث الأول على الثاني في الجملة، وليس معناه أن كل حديث في صحيح البخاري أصح من كل حديث في صحيح مسلم، ولا أن كل حديث في صحيح البخاري يخالف حديثاً في صحيح مسلم يكون حديث البخاري أصح؛ وإنما هذا هو الغالب والأصل، أي ان كل حديث مسند تفرد به البخاري وخرّجه احتجاجاً فهو أصح من كل حديث تفرد به مسلم إلا أن يقوم الدليل في حديث من الأحاديث بعينه على ضد هذا الأصل فيقدم حينئذ حديث مسلم على حديث البخاري.

ثم اعلم أيضاً أنه لا معنى للمفاضلة بين حديثين في موضوعين مختلفين، وأنه لا حاجة إلى المفاضلة بين حديثين ظاهرهما التعارض والجمع بينهما ممكن وصحيح؛ فإذن تنحصر المفاضلة المطلوبة في المفاضلة بين حديثين واردين في الصحيحين في موضوع واحد، وبينهما من اختلاف التضاد ما لا يمكن معه الجمع أو التوفيق بينهما؛ وهذا القسم في الصحيحين بحمد الله نادر إن لم يكن معدوماً.

****

هذا ما يتعلق بالفرق بين شروط الشيخين بصورة إجمالية.

وتبقى قضية ثانية قد تكون هي الأهم، في الموضوع؛ وهي بيان معنى وصف الحديث الذي لم يروه الشيخان بأنه صحيح على شرطهما؛ وهل يصح ذلك أو لا؟

ولبيان هذه المسألة، بقدر ما يظهر لي، أقول:

ليس المراد بشروطهما رواتهما فقط، بل المراد ذلك مع باقي شروط الصحيح عندهما.

أما شرط كل واحد منهما في العدالة والضبط فقد اقتصر العلماء المحققون في هذا الباب على رجاله الذين أخرج لهم احتجاجاً، فلم يقيسوا عليهم غيرهم ممن يظن أنهم في مرتبتهم من حيث العدالة والضبط، بل إن من تُكلم فيه مطلقاً أو مقيداً بما رواه عن بعض شيوخه أو بما رواه عنه بعض تلامذته أو بنحو ذلك، من رجال البخاري مثلاً، فإن شرط البخاري فيه إن كان قد أخرج له احتجاجاً هو أن تكون روايته على هذه الكيفية التي أخرجها البخاري لا على كيفية أخرى مغايرة، أي أن الحديث لا يكون من شرط البخاري إلا إذا كان من رواية التلميذ نفسه عن الراوي نفسه عن شيخه نفسه؛ بل إن قال قائل: إن هذا أيضاً لا يكفي لوصف الحديث المروي بهذه الكيفية خارج البخاري بأنه على شرطه لاحتمال أنه صححه لشواهد لم يذكرها في صحيحه فإني لا أُبْعِد أن يكون كلامه صحيحاً؛ والله أعلم.

وأما شرطهما في الاتصال ففيه تفصيل وخلاف؛ ولقد تكلم العلماء في ذلك قديماً وحديثاً؛ ومن أراد التوسع والتحقيق فليطالع ما كتبه في هذا الباب المحققان البارعان إبراهيم اللاحم وحاتم العوني.

ولعل الصواب الذي إليه قد ينتهي التحقيق في شرط الشيخين في السند المعنعن من رواية غير المدلس هو: أن الأصل عند البخاري أنه يشترط ثبوت اللقاء، ولكنه قد يخْرُج عند الحاجة عن هذا الشرط فيُخرج من الأحاديث ما لم يثبت فيه اللقاء، ولكن بشرط أن تدل القرائن على قوة احتمال اللقاء؛ فإذا ازدادت القرائن كثرة وقوة فإنه يكتفي بها ويعتمد عليها فيخرج الحديث من غير تردد ومن غير أن يسوق له ما يقويه ويشهد له لأنه عنده في حكم المتصل، اكتفاء منه بغلبة الظن في حصول السماع.

وأما مسلم فلعله كان يكتفي بالمعاصرة مع إمكان اللقاء إلا إذا دلت القرائن على قوة احتمال عدم اللقاء فحينئذ ينزل الحديث عن شرطه فلا يخرجه؛ والله أعلى وأعلم.

وأعود الآن إلى الكلام في بقية شروطهما؛ فأقول:

وأما شرطهما في الشذوذ والعلة فيصعب استقراء ما يدل عليه، وما لم يتم ذلك الاستقراء فلا بد من القول بأن شرطهما هنا هو شرط شيوخهما وأقرانهما وتلامذتهما؛ أي شرط الجمهور في عصرهما والعصور المقاربة.

هذا من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل، فلا يحسن – فيما أرى - أن يُدَّعى في حديث بأنه على شرط البخاري؛ إذا كان المراد أنه من شرطه على الحقيقة؛ فما يدريك ما حال ذلك الحديث عند البخاري؟ وما يدريك لمَ أعرض البخاري عن إخراجه في صحيحه.

ولو ثبت أن الحديث على شرط البخاري حقاً فحينئذ يجب أن نجعله من مرتبة أحاديث البخاري بخلاف صنيع ابن حجر وبعض من تقدمه ومن لحقه، إذ أنزلوه عن مرتبة أحاديث البخاري ثم أيضاً عن مرتبة أحاديث مسلم؛ والله أعلم.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير