- أنَّ البزار عني بجمع الغرائب والأفراد، ولذا تجده ينبه على ذلك بعد رواية الحديث، ولذا كان كتابه من أشهر الكتب التي هي مظنة الأحاديث الأفراد، قَالَ ابنُ حجر: ((تنبيه: من مظان الأحاديث الأفراد: مسند أبي بكر البزار، فإنه أكثر فيه من إيراد ذلك وبيانه، وتبعه أبو القاسم الطبراني في "المعجم الأوسط"، ثم الدار قطني في"كتاب الأفراد"، وهو ينبئ على اطلاع بالغ، ويقع عليهم التعقب فيه كثيراً بحسب اتساع الباع وضيقه، أو الاستحضار وعدمه، وأعجب من ذلك أن يكون المتابع عند ذلك الحافظ نفسه!، فقد تتبع العلامة مغلطاي على الطبراني ذلك في جزء مفرد. وإنما يحسن الجزم بالإيراد عليهم حيث لا يختلف السياق، أو حيث يكون المتابع ممن يعتبر به، لاحتمال أن يريدوا شيئاً من ذلك بإطلاقهم والذي يرد على الطبراني، ثم الدار قطني من ذلك أقوى مما يرد على البزار لأنَّ البزارَ حيثُ يحكم بالتفرد إنما ينفي علمه، فيقول:"لا نعلمه يروي عن فلان إلا من حديث فلان"، وأما غيره، فيعبر بقوله:"لم يروه عن فلان إلا فلان"، وهو وإن كان يلحق بعبارة البزار على تأويل، فالظاهر من الإطلاق خلافه، والله أعلم)) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 708).
ومعرفة الأفراد والغرائب من أهم وسائل الكشف عن العلة كما قال ابن الصلاح في مقدمته (ص81): «ويستعان على إدراكها-يعني العلة- بتفرد الرواي» وأمَّا أبو الحسن الدارقطني فعني في كتابه العلل بجمع الأحاديث التي وقع فيها اختلاف على أحد الرواة.
- ومن الفروق أنّ الدارقطني يوضح لك الاختلافات ويحدد مدار الحديث وكيفية وقوع الخلاف فهو مدرسة في تعليم العلل وتسهيلها على طلاب هذا الفن، والبزار ربما فعل هذا، ولكن بقلة مقارنة بعمل الدارقطني في كتابه.
- ومن الفروق أنّ الدارقطني أكثر توسعا وبسطا من البزار، فنَفَس الدارقطني في بيان الاختلافات وسرد الطرق طويل، ولذا كان كتابه أوسع كتاب في بيان علل الأحاديث، قال ابن كثير: «وقد جمع أزمة ما ذكرناه كلّه الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني في كتاب ذلك، وهو أجلّ كتاب بل أجلّ ما رأيناه وضع في هذا الفنّ، لم يسبق إليه مثله، وقد أعجز من يريد أن يأتي بعده، فرحمه الله، وأكرم مثواه» اختصار علوم الحديث (ص:64).
ومما أنبه عليه أن الدارقطني ربما ترك ذكر بعض الاختلافات والأوجه لأسباب منها:
شدة ضعف هذا الوجه أو الطريق لأنّ رواية ضعيف جدا أو متروك وما كان كذلك لا يعول عليه في الترجيح والجمع، فلا فائدة من إطالة الخلاف بذكره إلاّ إذا كان من باب التنبيه عليه.
ومن الأسباب أيضا: ظهور الترجيح في الأسانيد المذكورة كأن تكون من رواية كبار الحفاظ الأثبات فلا حاجة للتطويل في ذكر بقية الأوجه الموافقة،
ومن الأسباب أيضا: عدم حفظ الدارقطني للطريق المعين في تلك الساعة، وقد قال في عدد من المواضع عن بعض الطرق: «لا أَحْفَظُهُ السَّاعَةَ».
وهذه النقطة تسوقنا إلى الفرق الآخر وهو:
- أنّ البزار يسند أحاديثه في الغالب الأعم-يعني يرويها بإسناده- بخلاف الدارقطني حيث يغلب عليه تعليق الأسانيد، وإسناد الحديث عند البزار أعطاه ميزة على «علل الدارقطني»، ومن أسباب تعليق الدارقطني للأوجه والطرق التي يرويها في علله: أنّ الدارقطني لو أسند جميع الأوجه والطرق لكان الكتاب كبير الحجم جدا، فانظر مثلاً إلى حديث بسرة بنت صفوان في الوضوء من مس الذكر ذكر الدارقطنيُّ الاختلافاتِ في أسانيد الحديث ثم أسند جميع هذه الاختلافات فبلغت قرابة المئة حديث-إسنادا ومتناً-، هذا حديثٌ واحد فقط، فما بالك بجميع الكتاب لو أسنده؟! وكذلك حديث أم كرز في العقيقة أسنده فبلغت قرابة ستين حديثا.
- ومن الفروق أيضاً النظر في منزلة المصنفين فمنزلة الدارقطني في هذا الفن أجل بكثير من البزار، ومن طالع ترجمة الرجلين، وقرأ في كتابيهما بان له هذا بوضوح، وهذا الفرق يعطي كتاب «علل الدارقطني» ميزة أنه من تأليف إمام مبرز من أئمة العلل.
وهناك فروق أخرى لا نطيل بذكرها مثل: كثرة أحكام الدارقطني على الأوجه والطرق وغيرها.
والجواب عن قول الأخ السائل-بارك الله فيه-: «وبماذا يفسر منهج الأخير في العلل والسنن، وتباين ذلك» أنه لا تباين بين منهج الدارقطني في العلل والسنن بل بين الكتابين توافق يدل على أنّ مؤلف الكتابين إمام في علل الحديث يوضح هذا أمران:
الأمر الأوَّل: أنّ مقصد الدارقطني من تأليف سننه بيان غرائب وعلل أحاديث أحكام، وقد نصّ على ذلك أبو علي الصدفي، وابن تيمية، وابن عبد الهادي، والزيلعي، وأكد ذلك -من خلال دراسةٍ عميقة بالأرقام- الباحث عبد الله الرحيلي في رسالته العلمية «الإمام الدارقطني وكتابه السنن». ولمّا كان مقصد الدارقطني كذلك لم يبوب سننه، قال أبو علي حسين بن محمد الصّدفي (ت514) -وهو من أتقن من روى "سنن الدارقطني" -: ((الكتاب غير مبوّب، قرأته على ابن خَيْرون .. وكان عند ابن خَيْرون منه أجزاء بخط الدارقطني، فكان إذا أشكل من الكتاب شيء استخرج تلك الأجزاء، فربما وجد فيه اختلافاً، وفي النسخة مواضع علمتُ على بعضها لم يتجه لي أمرها ... ))، المعجم في أصحاب أبي على الصدفي" لابن الأبار (ص:80).
وما يوجد من تبويبات وتراجم هي من عمل النساخ، والناشرين-انظر: مقدمة محقق"سنن الدارقطني" (1/ 38 - 58) تحقيق: شعيب-.
وعندي أنّ هذا العمل فيه تجاوز لوظيفة المحقق الأصلية، وهي إثبات النص كما أراده مؤلفُهُ بدون تعديل أو تحسين.
الأمر الثاني: النَّفَسُ النقدي في الكتاب يوافق تماما نفس الدارقطني في كتابه العلل يَبين ذلك من خلال تعليل الأحاديث، وبيان الاختلافات، والحكم على الأسانيد والرجال– مع الفرق بين طبيعة الكتابين المنهجية-.
وأرجو من الأخ السائل -بارك الله فيه- أن يقرأ في الكتابين، ويكثر من ذلك ليلحظ هذا بنفسه، والله أعلم.
¥