[الوصل بين الفقه والحديث الضرورة والإجراء]
ـ[أبو مهند النجدي]ــــــــ[24 - 08 - 05, 09:46 ص]ـ
الوصل بين الفقه والحديث
الضرورة والإجراء
د. قطب الريسوني (*)
إن التنافر بين بعض أهل الفقه وأهل الحديث من الفجوات العلمية المعروفة في تاريخ الدراسات الشرعية (1)، وقد أسهم في تعميقها ـ عبر تراخي العصور ـ ما يسمى اليوم بـ (الاختصاص)، على ما كان عليه المتقدمون من مزية المشاركة في العلوم، والتضلّع من المعارف، فضلاً عمّا ابتلي به بعض أهل العلم من المفاضلة بين العلوم، والانتصار لفن على حساب آخر دون مراعاة الفروق، وتمييز الفضائل.
1 ـ ضرورة الوصل:
وقد نادى علماؤنا المتقدّمون بضرورة ملء الفجوة بين الحديث والفقه لعدم استغناء الشرع عن العلمين معاً؛ فالأول: يصحّح الدليل، والثاني: يسدّد الفهم، وتكاملهما يفضي إلى صياغة حكم شرعي صحيح السند صحيح المعنى. وإليك البيان:
إن الإحاطة بالفقه متوناً وأدلّة لا تستقيم إلا بمعرفة الأحاديث النبوية الصحيحة، التي هي متن الأحكام الشرعية وموضوعها، ولا سيما أن السنّة استقلّت بالتشريع؛ فأصبح الكتاب أحوج إليها من احتياجها هي إليه، كما قال الأوزاعي، وهذا النوع يعرف بـ (السنة المؤسسة)، وقد أنكرها بعضٌ خلافاً للجمهور، فأبطل كل سُنَّة ثابتة زائدة على نص القرآن.
ومع استقلال السنة بالتشريع يصبح الجهل بها جهلاً بالفقه نفسه؛ لأن موضوعه الحكم الشرعي؛ ومن مظان الحكم الشرعي السنة المؤسِّسة أو المستقلّة، فتأمل!
ثم إن الحظ الأوفر من مادة الفقه مورده السنة؛ لأنها المصدر التشريعي الثري الذي رسم للكون والإنسان والحياة منهجاً تفصيلياً، يلبّي مطالب المادة، وأشواق الروح على حد سواء؛ وكتب الفقه ناطقة بهذا؛ فلو جردناها مما جاء فيها من أحاديث ومرويات، وما تفرّع عليها من استنباطات واجتهادات لتعطّل الفقه بتعطيل رافده الثري (1).
وليس المطلوب من الفقيه التبحّر في علوم الإسناد، وتراجم الرجال على عادة أهل الصنعة الحديثية، وإنما يكفيه تحرّي الأخبار، وتمييز صحيحها من سقيمها، حتى إذا استشهد بحديث في تقرير أحكام الحلال والحرام كان على معرفة بدرجته الموجبة لقبوله أو ردّه، والمرجع في هذا الشأن كُتُبُ صيارفة الحديث، ونقاده المعتبرين.
ومن ثم فإن رواج الضعيف والموضوع في كتب الفقه راجع إلى إقلال أصحابها من بضاعة الحديث، وجهلهم بمراتب الأدلة، ولشيخ المصطلح (ابن الصلاح) كلمة يستضاء بها في هذا الصدد؛ حيث يقول: «إن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة، وأنفع الفنون النافعة، يحبّه ذكور الرجال وفحولهم، ويُعنى به محققو الرجال وكَمَلتهم، ولا يكرهه من الناس إلا رذالتهم وسفلتهم، وهو من أكثر العلوم تولُّجاً في فنونها، لا سيما الفقه الذي هو إنسان عيونها، ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء، وظهر الخلل في كلام المخلّين به من العلماء» (2).
كذلك لا يستغني المحدث عن الفقه وأصوله لتقويم أداة فهمه، وشحذ مَلَكَة استنباطه، وإلا ظلّ المتن مغلقاً على فوائده وأسراره، وانقلب علم الحديث إلى وسيلة لدراسة شكليات الدليل، وقوالب النص مقطوعاً عن غايته المثلى، وهي استثمار فقه هذا النص، أو ذلكم الدليل في تقرير الصحيح من أحكام الحلال والحرام. يقول الحاكم في (معرفة علوم الحديث): (النوع العشرون من هذا العلم: معرفة فقه الحديث؛ إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشريعة) (3).
فحال المحدّث الذي يجهل الفقه كحال من يملك أصدافاً، ولا يقدر على استخراج مكنوناتها وجواهرها، وما فائدة امتلاك الأصداف إذا لم تستعمل جواهرها في زينة أو تجميل؟ وما فائدة تصحيح الأحاديث إذا لم نَحُلَّ أعمالنا بفقهها، ونغني درايتنا بفوائدها؟
ولنذكر هنا طرفاً من أقوال العلماء في ضرورة الجمع بين الحديث والفقه، والرواية والدراية، عسى أن يستضيء بها كل طالب غيور على دينه، متهمّمٍ بكمال علمه:
1 ـ قال الإمام مالك في وصيته لابنَيْ أخته أبي بكر وإسماعيل: (أراكما تحبّان هذا الشأن ـ يعني الحديث ـ قالا: نعم! قال: إن أحببتما أن تنتفعا وينفع الله بكما، فأقلاّ منه وتفقّها) (4).
¥