فضلاً عن أن هذا الجمع بهذا التتبع، يتيح الفهم الدقيق لكل رواية على حدة، لارتباطها بموقفها وظروفها وملابساتها، قبل أن تنسجم في بناء الموضوع الواحد. وأقدم لبيان ذلك تطبيقاً لبيان كيفية الجمع بين الأحاديث الواردة في الغنى والفقر، وما يتصل بذلك من المعاني.
الجمع بين أحاديث الغنى والفقر
ولما وجدت أن بعض المصنفين للحديث النبوي، قد جعلوا أبواباً مستقلة بعضها يمتدح الفقر، ويذم الغنى، وفي الوقت نفسه، نجد أحاديث أخرى فيها الاستعاذة بالله من الفقر، وفيها الثناء على المال الصالح، ووجدت أن هذا المسلك، يحدث اضطرابًا في الفهم، لأحاديث الغنى والفقر، رأيت أن هذه الدراسة ينبغي أن تستوعب الأحاديث الواردة في الجانبين، وتحليل ما ورد فيها، والخلوص إلى النتيجة التي تلازم القارئ، عندما يقرأ حديثًا متفردًا يذكر الغنى أو الفقر؛ سواء بُوِّب له بالمدح أو الذم.
فعندما نقرأ كتاب "الرقاق" من صحيح الإمام البخاري نجد أنه رحمه الله، جعل منه بابًا بعنوان "فضل الفقر".
فهل يفهم من هذه الترجمة، الفضل المطلق للفقر فيرد به ما جاء في مدح الغنى؟ سواء كان هذا المدح في أحاديث مفردة تحت عناوين أخرى، أو كانت تحت عناوين تمدح الغنى؟
إن المتأمل في الأحاديث التي أوردها الإمام البخاري تحت هذا العنوان تجيبنا عن هذا التساؤل.
فأول حديث في الباب عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده، جالس: ما رأيك في هذا؟
فقال: رجل من أشراف الناس، هذا -والله- حريُّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يُشفّع.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يُشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".
فهل استحق الرجل الفقير هذه الخيرية بسبب فقره؟
إن الحديث لا يذكر هذا، وإنما يصحح مفاهيم الناس في موازين الرجال، وأن الفضل قد يكون للرجل الفقير إذا كان صالحًا، وقد يكون للغني إذا كان صالحًا، أما اتخاذ الغنى وحده مقياسًا للتفاضل بين الناس، فهذا ما صححه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.
والحديث الذي يليه يؤكد هذا المعنى، قال فيه الأعمش: سمعت أبا وائل قال: عُدنا خبابًا فقال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أُحد، وترك نمرة، فإذا عطّينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه من الاذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهْدُبُها".
فكلام خباب رضي الله عنه في بيان حال المهاجرين وكان منهم أغنياء وفقراء، والكل يريد وجه الله.
وكان منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، وكان مترفًا في الجاهلية يرفل في النعيم، فلما منَّ الله عليه بالإسلام، بذل نفسه معلمًا ومجاهدًا واستشهد في أُحد، وما زال المسلمون في بداية الدعوة، لم تفتح لهم الدنيا، حتى كان حاله أن تُغطى رجلاه بالإذخر. فهذا الذي نوّر الله قلبه بالإيمان قد دعاه حب الله ورسوله إلى هذه الحالة، وأجره على الله.
ومن المهاجرين كذلك من مَدَّ الله في عمره وجمع بين أجر الهجرة والجهاد وما فتح الله من الطيبات فهو "يهدبها" أي يجتني الثمرة التي نضجت وحان قطافها.
ففضيلة مصعب رضي الله عنه وسائر المهاجرين رضوان الله عليهم بجهادهم وبذلهم مع إيمانهم وحبهم لله ولرسوله.
ويدعم هذا التوجيه ما رواه أحمد والبزار ورواتهما ثقات، وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الفقراء المهاجرون الذين تُسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم؛ فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدونني، ولا يشركون بي شيئًا،
¥