ويتضح هذا المعنى، ويذكر بالتصريح في الروايتين الباقيتين تحت هذا العنوان فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة ". وفي رواية: (ألبسه الله إياه يوم القيامة، ثم ألهب فيه النار). أخرج الرواية الأولى أبو داود، والثانية رزين، وهي -أيضًا- في أبي داود.
وثوب الشهرة: هو الذي إذا لبسه الإنسان افتضح به واشتهر بين الناس، والمراد به ما لا يجوز للرجال لبسه شرعًا ولا عرفًا. فترك الزينة - إذًا - مقيد بوجود المخالفة الشرعية فيها، وإلا فإن التزين هو الأصل، وقد أمرنا به في القرآن الكريم في أطهر الأماكن "خذوا زينتكم عند كل مسجد " (الأعراف:31).
وجاء التحريض عليه في أحاديث النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعليّ ثوب دونٍ فقال: ألك مال؟ قلت: نعم.
قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال قد أعطاني الله تعالى.
قال: فإذا آتاك الله تعالى مالاً فليُر أثر نعمة الله عليك وكرامته".
فعدم التزين من الرجل مع وجود المقدرة المالية عنده كان سبب هذا التوجيه الذي يأخذ أمرًا عامًا في نعم الله كلها، وأن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. وهذا يرد على الذين يكتمون نعمة الله خشية الحسد، فالمؤمن يرى كالشامة وإن خشي شيئًا فليستعذ بالله من شره.
وعن محمد بن يحيى بن حيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته ". وهذا التخصيص ليكون المؤمن في أحسن زينة، وهو يلتقي بإخوانه في يوم الجمعة، فما يلبسه في عمله قد يصيبه من أثر العمل ما ينقص من جماله ونظافته.
وعن جابر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب لنا يرعى ظهرًا لنا وعليه بُردان قد أخلقا. فقال: أما له غير هذين؟ قلت: بلى له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، فقال: ادعه، فليلبسهما، فلبسهما. فلما ولّى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما له، ضرب الله عنقه. أليس هذا خيرًا؟ فسمعه الرجل، فقال: في سبيل الله يا رسول الله. فقال: في سبيل الله. فقتل الرجل في سبيل الله.
فالرسول الكريم لم يكتف في هذا الحديث بالتوجيه فحسب، وإنما دعا إلى التنفيذ، وأن يلبس الثوبين، ولبسهما، وقارن الرسول الكريم بين الحالتين مستحسنًا التزين.
ويختم هذا العنوان ببيان المنهج الوسط الذي يتزين فيه المرء بلا إسراف، وبلا تقتير.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هاتين اللبستين: المرتفعة والدّون.
ومن هذا يتضح لنا أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها اختلاف، وإنما يحتاج الأمر إلى جمعها في الموضوع الواحد حتى نحسن فهمها وتوجيهها، دون أن نضرب بعض الأحاديث ببعض.
وعلى ذلك فإن الإنسان في جملة النصوص يقبل على رزق الله، وهو واثق فيما عند الله، يطلبه بما أحل الله، فإذا وصله لم يفتن به، بل تعامل فيه بمنطق إيمانه، لا يفرح بما أوتي، ولا يحزن على ما فات، ولا بأس أن يصل في الجلال إلى ما شاء الله، وإن ضيق عليه في الرزق فهذا قضاء الله، وعليه أن يصبر، وأن يسعى سعيًا حميدًا للخروج من الفقر، كما أن أثر النعمة يُرى عليه.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك ".
وهكذا تصحب وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن في أحواله كلها ليكون سعيدًا في غناه، وفي فقره، لا يطغيه غناه، ولا يجزع في فقره، بل يتقلب في حياته بين الشكر والصبر والرضى، يجد حلاوة القليل، كما يعم غيره بسرور غناه.
وتتابع مثل هذه التوجيهات في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لترسخ هذا المعنى:
¥