وجهالة العين من أسباب رد رواية الراوي أيضا، إلا أنها تختلف عن جهالة الحال في أنها من أسباب الضعف الشديد في الرواية، فرواية مجهول العين لا تقوي و لا تتقوى بالمتابعات أو الشواهد، و لا يعتبر بها في الترجيح، بخلاف رواية مجهول الحال أو المستور، فإن جهالة الحال من أسباب الضعف المحتمل، فإذا توبع على روايته انجبر ضعفه، وارتقى حديثه إلى الحسن بمجموع الطرق، وهو ما استقر عليه الاصطلاح عند أكثر المتأخرين، بخلاف ما عليه المتقدمون في هذه المسألة."
و قال في (ص 236) تحت عنوان: " التقوية بالمتابعات و الشواهد محتملة الضعف ":
((التقوية بالمتابعات من أدق المسائل التي يجب أن يوليها الباحث عناية خاصة، إذ ليست كل متابعة، أو كل شاهد يصلح للتقوية. و إنما خص أهل العلم التقوية بالطرق ذات الضعف المحتمل، وأما الطرق شديدة الضعف فلا يحصل بها تقوية، بل هي لا تزيد الحديث على هذه الصفة إلا وهنا على وهن. وهذا الشرط ظاهر جدا من كلام الترمذي – رحمه الله- و من شرطه الأول من شروط الحديث الحسن حيث قال: " كل حديث لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب". فهذا احتراز عن الضعف الشديد الذي يوهن السند.
و عليه فالمتابعة تنفع في أسباب الضعف التالية:
1. جهالة الحال، ومنها رواية المستور.
2. الإرسال.
3. الانقطاع
4. سيئ الحفظ، ومن له أغلاط، إلا أنه لا يصل إلى درجة الترك، والمختلط الذي لم يتميز، وهؤلاء ضعفهم محتمل.
فإذا ورد الحديث من وجهين ضعيفين من هذه الأوجه، عضد أحدهما الآخر على منهج المتأخرين.
و أما المتابعة فلا تنفع في أسباب الضعف الشديد، وهي:
1. الإعضال، وهو سقوط راويين أو أكثر على التوالي من السند.
2. التهمة أو الوصف بالكذب، أو التهمة بالوضع أو الوصف به، أو المتروك لكثرة مناكيره و كل من لا يحتمل ضعفه.
3. الشذوذ أو النكارة
قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله – في النزهة (ص:111):" ومتى توبع سيء الحفظ بمعتبر كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه وكذا المختلط الذي لم يتميز، و المستور الإسناد، و المرسل، و كذا المدلس إذا لم يعرف المحذوف منه صار حديثهم حسنا لا لذاته، بل وصفه بذلك باعتبار المجموع من المتابِع و المتابَع، لأن مع كل واحد منهم احتمل كون روايته صوابا أو غير صواب على حد سواء، فإذا جاءت من المعتبرين رواية موافقة لأحدهم رجح أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين، ودل ذلك على أن الحديث محفوظ، فارتقى من درجة التوقف إلى درجة القبول")) انتهى النقل عن الشيخ حفظه الله.
قلت: و غريب جدا أن الشيخ - حفظه الله- لم يذكر جهالة العين هنا.
ومن تأمل ما نقلته المرة السابقة (ص 245 - 247) و هذه المرة يتضح له أن أدلة الشيخ - على أن رواية مجهول العين من أسباب الضعف الشديد -تتلخص و الله أعلم في ما يلي:
- أنه كثيرا ما يكون الراوي مجهول العين لا وجود له و إنما نشأ اسمه من تصحيف، أو وهم من أحد رواة الحديث، وقد مثل الشيخ لذلك في موضع آخر.
- أنه لم يجد أحدا من أهل العلم نص على تقوية رواية مجهول العين بالمتابعة
- أن أهل العلم خصوا تقوية الجهالة برواية مجهول الحال كما يظهر من كلام ابن حجر "الذي مر آنفا" و من قبله ابن الصلاح.
قلت: و لعل كلام ابن الصلاح المشار إليه هو ما نقله الشيخ – حفظه الله- (ص243) حيث قال: ((قال ابن الصلاح رحمه الله (ص: 34): " ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق و الديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه له، وكذلك إن كان ضعفه من حيث الإرسال، زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر. ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره و مقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب، أو كون الحديث شاذا")).اهـ.
وهذا – بالإضافة إلى ما مضى- محصل ما ذكره الشيخ في كتابه حول هذه المسألة، وإن كنت لم أوفق في نقل كلام ابن الصلاح المراد فليدلنا عليه من عرف ذلك من الإخوة، والله الموفق إلى سبيل الرشاد لا موفق سواه .... وبارك الله فيك يا أبا عبد الباري على ما قدمت وفي جميع الإخوة المشاركين.