تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فعرفه الكثيرون منهم بناءاً على الأساس الذي أسسته كتب الفلسفة لهذا المقصد وهو الاعتماد على الكثرة العوامية بوحدها على شرط إفادتها القطع بلفظ: «ما رواه قوم لا يحصى عددهم ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب».

والتعريف على هذا الأساس يظهر جميلًا ورائعاً في بادئ ذي بدء , ويمتِّع الفكرَ والتصوُّرَ والخيالَ بقسط وافر من الطرافة والإعجاب عند ذوي السذاجة ورقاقة الحال , ولكنه يظهر هذا الأساس لغواً وفاسداً جداً إن نظرنا فيه بنظرة التعمق والتدقيق والإمعان والاستبار.

وذلك لأن الكثرة أو الأكثرية العددية المجردة عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشِّيَم ومعالي القِيَم والأقدار لا تكون إلا خلاصة التَفَاهة وعصارة الخَساسة ولب الضلالة ولباب الجهالة في أغلب المجتمعات؛ فلا تصلح لوحدها وبذاتها أن تكون مناطاً للقطع واليقين في باب الأخبار والروايات التي هي مادة الأحكام الشرعية على وجه الخصوص، لا عند الله عزوجل، ولا عند أصحاب العقول النيرة والبصائر النافذة من العلماء.

قال الله عزوجل: ?وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُوْنَ? (يوسف /21) ?وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُوْنَ? (الزخرف/78) ?وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُوْنَ? (آل عمران/110) ?وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُوْنَ? (المائدة/103) ?وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُوْنَ? (الأنعام/111) ?وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا? (يونس/36) ?أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُوْنَ أَوْ يَعْقِلُوْنَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيْلًا? (الفرقان/44) ?وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُوْنَ? (الشعراء/223) ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوْكَ عَنْ سَبِيْلِ الله? (الأنعام/116).

ومثله شيء كثير في القرآن الكريم ما يدل على أن الكثرة العوامية المحضة مظنة الكذب والجهل والفسق والضلال؛ فلا تصلح لإنجاب الأخبار القطعية والحكايات اليقينية، ويأبى الله أن يتوقف صدق أو ثبوت أمر من أمور شريعته على رواية أمثال هؤلاء المذكورين التائهين.

أما العلماء فقد قال إمام الحرمين الجويني في البرهان (1/ 572،578): «ما من عدد تمسك به طائفة إلا ويمكن فرض تواطئهم على الكذب».

وقال الرازي في المحصول (2/ 1/377): «الحق أن العدد الذي يفيد قولهم العلم غير معلوم، فإنه لا عدد يفرض إلا وهو غير مستبعد في العقل صدور الكذب عنهم».

وقال السرخسي في الأصول (1/ 294): «لا يوجد حد من حيث العدد يثبت به علم اليقين».

وقال السبكي في رفع الحاجب (2/ 304): «ويختلف عدد التواتر باختلاف قرائن التعريف، وأحوال المخبرين، والاطلاع عليهما، وإدراك المستمعين، والوقائع».

كما أن البزدوي والسرخسي والاتقاني والحسامي والخبازي وغيرهم من الأحناف قيدوا الكثرة العددية المعتبرة في التواتر بقيد العدالة والإسلام وتباين أماكنهم، وتشتت آرائهم، وتخالف طبائعهم وغيرها من القيود؛ فلو كانت الكثرة العوامية بوحدها مناط القطع في المتواتر عندهم لما قيدوها بتلك الشروط والأوصاف.

ثالثاً: إن القائلين بتأثير الكثرة العوامية المذكورة في حصول اليقين اختلفوا أيضاً في الاعتماد عليها اختلافاً شديداً , وعلى وجهين:

الأول:

باعتبار مقدارها , فقالوا خمسة , وسبعة , وعشرة , واثنا عشرة , وعشرون , وأربعون , وسبعون , وثلاثمائة وبضعة عشر, وأربع عشرة مائة, وخمس عشرة مائة , وسبع عشرة مائة , وما لا يحويهم بلد , وأن لا يحصى عددهم، وجميع الأمة وغير ذلك من الأقوال المذكورة في كشف الأسرار للبخاري (2/ 657) , والبحر المحيط للزركشي (4/ 232) , والإيضاح للمازري (ص/426) , والتمهيد لأبي الخطاب (3/ 28) وتحفة المسئول لابن موسى (2/ 324) وغيرها من المصادر الأصولية.

حيث بدأوا من خمسة وانتهوا إلى جميع الأمة، وهو قضية الإجماع وليس بقضية التواتر، فلم يطمئن قلبهم على شيء ما دون الإجماع.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير