وسبب ذلك الاختلاف والاضطراب والتشويش هو أن ما اعتقدوه من كثرة رؤوس العوام مناطاً للقطع لم يكن علةً حقيقيةً يدور معها القطع طرداً وعكساً , وإنما كان من جنس ما يسيطر على الأفهام والعقول من الأفكار بمجرد جماليتها الظاهرة فيظن لأجلها صاحبها بأنها حقيقة فكرية قائمة، وإلا فهي في الأصل وهم وخيال ?كَسَرَابٍ بِقِيْعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى? إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا?.
والثاني:
باعتبار أوصافها , فقال البعض: يجب أن تكون تلك الكثرة غير محصاة العدد , وغير ممكنة الاتفاق على الكذب بنفسها.
فقال الآخرون: لا بنفسها , بل لأجل الإسلام , والتنزه , والعدالة , وتباين أماكن الرجال , وتفرق هممهم , وتخالف طبائعهم , وتشتت آرائهم, وبغير ذلك من الصفات والقرائن الموجبة أو المؤكدة لتحقق القطعية واليقين من تلك الكثرة على حسب زعمهم، كما هو المختار للإتقاني في التبيين (1/ 582) , والبزدوي في الأصول (2/ 658) مع الكشف , والخبازي في المغني (ص /191) , والسرخسي في الأصول (1/ 282)، والحسامي في المنتخب (1/ 417) بتحقيق الفرفور، وأبي يعلى في العدة (3/ 856) وغيرهم من الأصوليين.
فهذا يدل على أن الكثرة العوامية المحضة التي عليها مدار التواتر عند الفلاسفة وأتباعهم لا تصلح في أصل طبيعتها لتحقيق شيء من القطعية واليقين في مجموعة القضايا وجملة الأخبار وحقائق الأحوال؛ وإلا لما اختلفوا في مقدارها وأوصافها اختلافاً لا يوجد له مثال في أبواب الخلافيات.
رابعاً: ولأجل تلك السخافة الفكرية التي يقوم عليها تواتر الفلاسفة، ولعدم صلاحيته لإفادة القطع عن طريق ضوابط معتبرة منضبطة وقوانين ثابتة محكمة اضطر كثير من المتقدمين والمتأخرين إلى ترك الاعتبار بالكثرة العددية في تعريفه في النهاية؛ لأنها بوحدها كما قال الرازي وغيره من العلماء: «غير مستبعد في العقل صدور الكذب عنهم» مهما يبلغ عددها مبلغاً، فاعتمدوا في تعريفه على حصول القطع فقط فعرفوه بلفظ: «ما أفاد القطع»، أو بـ «ما حصل العلم عنده» أو بـ «كل خبر أوجب العلم ضرورة».
و «ما» و «كل» من صيغ العموم التي تستغرق لجميع ما أفاد القطع من كثرة عدد، أو قلته مع العدالة والضبط والإتقان، أو لأجل ما يرجع إلى نفس الخبر من القرائن الموجبة للقطع، أو لأجل ما يتعلق بمزاج السامع وصلاحه وأحواله؛ فموجَب عمومهما اعتبارُ كل ما أفاد اليقين ـ وبأي وجه من الوجوه أفاد ـ متواتراً اصطلاحياً.
ولكن عامة الأصوليين من أهل الرأي والمتكلمين، وأكثر المبتدعة من المسلمين كالأشاعرة والماتريدية وغيرهم فإنهم يعرِّفونه بالتعاريف المذكورة في كتبهم الأصولية فقط تحقيقاً لإمكانية وقوعه وتقريباً لفهمه إلى الأذهان، ولكنهم في أبحاثهم الفقهية والعقدية لاينظرون إليه إلّا بتلك النظرة المريضة وهي العددية المحضة؛ فلا يحكمون على حديث بالتواتر أو بالآحاد إلّا لأجل وجود الكثرة وعدمها، اللهم إلا أن يكون من جنس ما يوافق هواهم أو رأيهم أو بدعتهم، فهو إما متواتر وإما في حكم المتواتر عندهم، وهذا الدأب معروف عن كثير من أهل الرأي والبدعة، ونعوذ بالله من ذلك.
وأما الذي يجري فلسفة أرسطو في لحمه وعروقه مجرى الدم فإن أمره يختلف عن هؤلآء فإنه بهذا الشكل والصورة ?يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيْغُهُ?.
خامساً: فلما كانت لحصول القطع في الأخبار أسباب أخرى كثيرة غير الكثرة العددية، واتفقت كلمتهم على ذلك، فأي معقولية في لزوم التخبط في الكثرة فقط لتحقيق معنى القطع؟ والحال أن القطع له موجبات أخرى كثيرة.
فإن كان المقصود بالتواتر هو القطع فقط فتعريفه بالكثرة العددية بوحدها لا يستقيم، وإن كان المقصود به القسمة العددية للأخبار فلا داعي لتعليق العدد مع القطع في جميع الأحوال لتحقيق إسمية التواتر؛ لأن المشهور والعزيز والغريب كثيراً ما تفيد القطع، كما أنه على حسب القسمة العددية لا اضطراب في ماهياتها ولا اختلاف في اصطلاح المحدثين رحمهم الله.
¥