تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فكما أن المشهور يكون صدقاً وكذباً , وأن خبر الواحد يكون صدقاً وكذباً هكذا المتواتر يكون صدقاً وكذباً؛ لأن التواتر والشهرة والآحادية كلها آلات انتشار الخبر وأداة شيوعه , فكما أن الصدق ينتشر عن طريقها هكذا الكذب والخطأ والوهم ينتشر عن طريقها.

فكما أن تواتر الصدق مع «كثرة لا يحصى عددهم» يحتاج لكونه صدقاً إلى عدم إمكانية تواطئهم على الكذب عندهم , هكذا تواتر الخطأ أو الكذب لكونه كذباً أو خطئاً يحتاج ـ مع تلك الكثرة غير المحصاة ـ إمكانية التواطؤ على الخطأ والكذب.

وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح النخبة (ص/10) بعد أن ذكر أربعة شروط لتحقق ماهية المتواتر: «وقد يقال: إن الشروط الأربعة إذا حصلت استلزمت حصول العلم , وهو كذلك في الغالب , وقد يتخلف عن البعض لمانع».

فقوله: «في الغالب» يدل على أن المتواتر عنده وإن استوفى الشروط ليس بضروري أن يفيد القطع في جميع الأحوال ولجميع الناس.

وقال الأجهوري في شرح النخبة (ورقة/15) نقلًا عن الكمال: «المتواتر قد لا يفيد العلم؛ لكون العلم الذي يحصل به حاصل عند السامع , أو لكونه عالمًا بنقيضه لامتناع اجتماع النقيضين».

فهذا يدل على أن المتواتر قد يناقض بنقيضه , والذي يناقض بنقيض يدخل في باب الصدق والكذب بلا شك , ويخرج عن كونه صدقاً محضاً.

وقال أبو يعلى الحنبلي في العدة (3/ 845): «والعلم الواقع بالأخبار المتواترة ليس من شرطه أن يجمع الناس كلهم على التصديق به».

ومثله في المسودة لآل ابن تيمية (1/ 468).

وقال القرافي في شرح التنقيح (ص/350) وأبو علي الشوشاوي في رفع النقاب (5/ 32): «ونحن لا ندعي حصول العلم ـ أي بالمتواتر ـ في جميع الصور، بل ادعينا أنه قد يحصل، وذلك لا ينافي عدم حصوله في كثير من الصور».

وكذلك حكم العيني في العمدة (20/ 307) على حديث فاطمة بنت قيس بأنه روي من وجوه صحاح متواترة , ولكنه حكم عليه معظم الأصوليين من الأحناف بأنه حديث مستنكر , كما يأتي تفصيله في نهاية الفصل , وهذا النوع له أمثلة كثيرة في كتب الفقه والأصول.

وهناك مئات من الكذبات والمعتقدات الشيطانية التي انتشرت انتشار التواتر في الدنيا فيعتنقها ملايين من الناس وهم على يقين راسخ لصدقها وصحتها كمعتقدات اليهود والهنود والنصارى وغيرهم من الأقوام والقبائل والأمم.

فالإصرار من الأصوليين على أن الكذب والغلط والوهم لا يتواتر , أو أن المتواتر لا يكون إلا صدقاً , أو الرد على من قال بتواتر أخبار اليهود وزرادشت والنصارى وأمثالهم من مبتدعة هذه الأمة احتجاجاً بأن ابتداءها لم يكن متواتراً , وأن شرط التواتر الفلاني مفقود كما فعله معظمهم في كتبهم الأصولية ليس بتحقيق ولا تدقيق؛ لأن بطلان تلك المعتقدات ليس لأجل أنها لم يتواتر فليست بصدق , بل لأجل توفر النصوص الشرعية على بطلانها , فلو لم يرد في الشرع ما يدل على بطلانها وكذبها لما رد عليها المسلمون أيضاً.

فالحق في هذه المسألة هو أن الصدق والكذب في الأخبار شيء يتوقف على غير الكثرة , والكثرة المحضة أمر إضافي فهي كما تجتمع مع الصدق هكذا تجتمع مع الكذب أيضاً؛ فيجب على الباحث أن يدقق النظر ويوسعه في موجبات الصدق والكذب التي توجبهما إيجاباً حقيقياً في الأخبار لا وهمياً ولا خيالياً , والتي تنضبط بضابط ويطرد معها الحكم , وهي ليست إلا الإسلام والعدالة والأمانة والتقوى ونحوها من الصفات التي اعتبر بها الشرع والتي تقوم مقام الأشخاص , بل لا قيمة للأشخاص بدونها كما هو مذهب أهل الحديث رحمهم الله رحمةً واسعةً لحماية أحاديث الرسول ? جزا هم الله عنا وعن جميع المسلمين خيراً.

تاسعاً: إن كثيراً من الأصوليين بعد الاختيار بـ «أن المتواتر ما أفاد العلم» جلسوا يقسمون ما يفيد القطع من الأخبار , إلى أن هذا يفيد القطع بنفسه , وهذا يفيد القطع بالقرائن لا بنفسه.

وهذه الفكرة أيضاً والله أعلم من حصائل الاستعجال والتغافل وسوء التفكير والتفاهم في حقيقة القضية؛ لأن العدد بنفسه ومن غير ملاحظة بأمر آخر معه لا يضمن القطع عندهم قليلًا كان أم كثيراً , كما قد فصلنا ذلك مراراً.

بل العدد لإفادة القطع يحتاج إلى موجبات القطع وهي إما ترجع إلى المخبرين كالإسلام والعدالة والتقوى واختلاف الأماكن والأهواء والأقوال ونحوها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير