سابعاً: إن الخبر شرعياً كان أو غيره فإن الإنسان متعرض لسماعه وإسماعه لا محالة بكثرة متكاثرة؛ فمقتضى الفكر الصحيح والعقل السليم والمنهج المستقيم هو البحث في شريعة الله عزوجل عن موجبات الصدق والكذب وأساليبها، ثم الاعتماد على ما اعتمد عليه الشرع لتحقيق الروايات وتدقيق الأخبار والشهادات، وليس من المعقول التخبط فيما لم يعتمد عليه الشرع أصلًا، ولم يُلزم به الأمةَ في شيء من أمور حياتها الاجتماعية أو الشخصية.
وما ورد الشرع باعتباره هو الصدق والعدالة والأمانة وكل ما يضاد الكذب فيمن يروي أو يخبر لقوله تعالى: ?وَأَشْهِدُوْا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ? (الطلاق/2) و ?يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ? (المائدة/95)، و?إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوْا? (الحجرات/6) وغيرها من النصوص الكثيرة.
وكذلك الضبط والإتقان والحفظ لما سمع لقوله تعالى: ?أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى?? (البقرة/282)، ولقول الرسول ?: «نَضَّرَ اللهُ إِمْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِيْ فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا»، و «كَفَى? بِالْمَرْءِ كَذِباً أَنْ يُّحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، وغيرها من النصوص الواردة في ذلك.
وكذلك السماع المتصل مع الفهم الصحيح غير الخاطئ لقوله تعالى: ?وَلَا تَكُوْنُوْا كَالَّذِيْنَ قَالُوْا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُوْنَ ? (الأنفال/21).
وعدم الشذوذ والانحراف والتفرد والتطرف المجانب للصواب لقوله تعالى: ?وَمَنْ يُّشَاقِقِ الرَّسُوْلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ الْمُؤْمِنِيْنَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيْرًا? (النساء/115).
ومع كل ذلك إعادة النظر الدقيق في ما يلحق الأخبار من اللواحق القادحة الخفية التي نادراً ما يطلع عليها الخواص فضلًا عن العوام من الناس لقوله تعالى: ?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ? (الإسراء/36) ولقوله تعالى: ?إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا? (الحجرات/6) حيث إن الأمر بالتبين يوجب دقة النظر والفحص في أخبار الفساق , ولكنه لم يمنعه عما ظاهره الصحة أيضاً لزيادة التدقيق والتمحيص لقوله ?: «مَنْ أَفْتَى? بِفُتْيَا مِنْ غَيْرِ ثَبَتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلى? مَنْ أَفْتَاهُ» رواه الدارمي برقم [161].
فهذا هو المنهج الرباني في قبول الأخبار والروايات وتدقيقها، وهو الذي مشى عليه أصحاب حديث الرسول ? بتوفيق الله تعالى وفضله في نقد الروايات وتنقيحها، واعتمدت الأمة واطمأنت على هذا الفكر المنهجي الجليل الموفق.
وهو منهج متكامل ذو أصل متين وأساس رصين يعطي كل باحث قواعد راسخة وضوابط ثابتة وقوانين محكمة معتبرة يصل عن طريقها بكل سهولة إلى تمييز الصحيح من الضعيف، والحق من الباطل، والمقبول من المردود.
أما متواتر الفلاسفة الذي يقوم على الكثرة العوامية المجهولة عِدَّة وعُدَّة فهو عبارة عن مجموعة من الأفكار المتضادة والتصورات المشوشة التي لم تنضبط بضابط معقول؛ فلم يبن عليها الشرع البحث في الأخبار والروايات والشهادات، ولم يعلق بها شيئاً من حوائج العباد لا في العبادات ولا في المعاملات، ولا إثباتَ شيء منها عن طريقها، ولا إعطاءَ حكم القطع عن واسطتها؛ فهي مهجورة ومرفوضة وملغاة في أصول شريعة الله عز و جل.
فيجب على أصحاب البصائر النافذة التجنب والاحتراز عن التخبط في تفاصيله المجهولة وجزئياته العقيمة، والاعتماد جله وكله على ما ورد الشرع باعتباره، والذي اطمأنت الأمة على اختياره.
ثامناً: إن التعاريف التي يذكرها الأصوليون لبيان ماهية المتواتر هي كلها إما لجعل المتواتر صدقاً محضاً , وإما على اعتقاد أن المتواتر لا يكون إلا صدقاً , وهو اعتقاد في غاية من الفساد؛ لأن المتواتر في أصله عبارة عندهم عما يخبره الكثيرون , فهؤلاء الكثيرون إن لم يمكن تواطئهم على الكذب فهو متواتر صدق , وإن أمكن فهو متواتر خطأ أو غلط على حسب كمية الإمكان ونوعيته , وإن لحق بخبرهم لواحق مؤكدة للكذب فهو تواتر كذب.
¥