إنه إن بقي من يزعم أن (خبر العامة) عند الشافعي هو (المتواتر)، بعد هذا كله، فما عليه إن أتم النظر فيما يلي:
هذا الإمام أحمد بن أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ)، الذي نصر المذهب الشافعي بما لم ينصره أحد مثله، حتى قيل: ((ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منه، إلا البيهقي؛ فإنه له على الشافعي منه، لتصانيفه في نصرته لمذهبه واقاويله)) (44).
هذا الإمام الذي هو أولى الناس بمعرفة أقوال الشافعي وفهماها، نقل عن إمامه (الشافعي) تقسيمه الأخبار إلى (خبر عامة) و (خبر خاصة)، وذلك في مقدمة كتابه (دلائل النبوة) (45).
وبعد هذال النقل، وفي هذه المقدمة ذاتها، يقول البيهقي: ((ومما يجب معرفته في هذا الباب: أن تعلم أن (الأخبار الخاصة) المروية على ثلاثة أنواع:
نوع اتفق أهل العلم بالحديث على صحته، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون مروياً من أوجهٍ كثيرةٍ، وطرق شتى، حتى دخل في حد الاشتهار، وبعد من توهم الخطأ فيه، أو تواطؤ الرواية على الكذب فيه. فهذا الضرب من الحديث يحصل به العلم المكتسب، وذلك مثل الأحاديث التي رويت في القدر والرؤية والحوض ...
(إلى أن قال:) والضرب الثاني: أن يكون مروياً من جهة (الآحاد)، ويكون مستعملاً في الدعوات والترغيب والترهيب والأحكام .. )) (46).
فانظر ـ حفظك الله ـ كيف قسم (أخبار الخاصة): إلى ما يسمى بـ (المتواتر)، وما سماه هو بـ (الآحاد)؛ فـ (خبر الخاصة) عنده شامل لكلا القسمين!!
ولن أدخل في مناقشة هذا التقسيم الآن، وبيان منزعه القائد إليه، فهذا مما سيأتي ـ إن شاء ربي ـ ذكره (47). لكن الغرض من ذكر هذا النقل عن البيهقي، حتى تعلم كيف فهم أئمة الشافعية كلام إمامهم.
ولم يتفرد البيهقي دون بقية الشافعية بهذا الفهم لكلام إمامه، بل هو مسبوق إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير
حيث إن تقسيم الشافعي (دون البيهقي) هو التقسيم الحديثي الحقيقي للسنن، وهو التقسيم الذي يوافقه عليه كل من له ممارسة لعلم الحديث، ممن لم يتأثر بذلك التقسيم الغريب على علوم السنة، النابع منت علمٍ دخيل على معارف الأمة وحضارتها.
ولذلك تجد حافظاً من كبار أئمة الحديث ونقادهم، وهو شافعي معتز بشافعيته (48)
أيضاً، وله علم واسع كذلك بـ (علم الكلام) (49) وهو ابن حبان (ت 354هـ) = يقول في مقدمة (صحيحه): ((فأما الأخبار، فإنها كلها أخبار آحاد. لأنه ليس يوجد عن النبي صلى ا لله عليه وسلم خبر من رواية عدلين، روى أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما استحال هذا، وبطل، ثبت أن الأخبار كلها أخبار آحاد. وأن من تنكب عن قبول أخبار الأحاد، فقد عمد إلى ترك السنن كلها، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد)) (50).
ويوافق ابن حبان على ذلك إمام آخر، هو أيضاً من أئمة الحديث، ومن أئمة الشافعية، وهو أبو بكر محمد بين موسى الحازمي (ت584هـ). حيث قال عقب نقله لكلام ابن حبان، في كتابه (شروط الأئمة الخمسة): ((ومن سبر مطالع الأخبار عرف أن ما ذكره ابن حبان أقرب إلى الصواب)) (51). ثم قال بعد ذلك: ((ثم الحديث الواحد لا يخلو إما أن يكون من قبيل التواتر، أو من قبيل الآحاد. وإثبات التواتر في الآحاد عسر جداً، سيما على مذهب من لم يعبر العدد في تحديده. وأما الآحاد: فعند أكثر الفقهاء توجب العمل دون العلم، فلا تعويل على مذهب الكوفيين في ذلك، وقد ذهب بعض أهل الحديث على أنه يوجب العلم. وتفاصيل مذاهب الكل مذكورة في كتب أصول الفقه، وعلى الجملة فقد اتفقوا أنه لا يشترط في قبول الآحاد العدد قل أو كثر، والله أعلم)) (52)
فانظر إلى هذا الكلام، ولا حظ مشاربه المختلفة، ودقق في ألفاظه لا ستخراج خفايا معانية)) أ. هـ
وإن لم يتوفر لديك الكتاب، فعليك بهذا الرابط: http://www.ahlalhdeeth.com/library/alshareef/page/book-4-9.html
لكن انتبه هذه النسخة الإلكترونية بها بعض السقطات.