وهذه الصورة الخيالية هي التي عناها مبتدع (المتواتر) الأول من ابتداعه له، لأنها ـ بزعمه ـ الطريق الوحيد لليقين بصدق الخبر دون النظر في عدالة ناقليه. لكن هذه الصورة خيال عقلي، بعيد كل البعد عن الوقع، وتحكم بحصر طريق اليقين في تلك الصورة، وغض للنظر دون عدالة الناقلين، مع أنها هي الطريق المتيسر الصحيح لليقين بصدق الأخبار.
لكن ذلك المبتدع تلقى تلك الصورة الخيالية عن أسياده من فلاسفة اليونان، وترجمها عن أساتذته في معاداة الوحي الإلهي، ثم أراد أن يحكمها في أسانيد السنن النبوية!!!
ولم تنته ـ بعد ـ مناظرة الإمام الشافعي مع خصمه، في إبطال شرط (العدد الكثير) من شروط (المتواتر).
وقد كان خصم الشافعي قد ضرب مثلاً لتلك الصورة الخيالية لـ (المتواتر)، برواية أربعة، وعن كل واحد من هؤلاء الأربعة أربعة آخرون .. وهكذا.
فقال له الإمام الشافعي: ((وقلت له: من قال اقبل من أربعة دون ثلاثة؟ أرأيت إن قال لك رجل: لا أقبل إلا من خمسة؟ أو قال آخر: من سبعين! ما حجتك عليه؟ ومن وقت لك الأربعة؟!
قال إنما مثلتهم.
(قال الشافعي:) قلت: أفتحد من يقبل منه؟
قال: لا
(قال الشافعي:) قلت: أو تعرفه فلا تظهره، لما يدخل عليك؟!
(قال الشافعي:) فتبين انكساره)) (41)
أي لعمري! يتبين انكساره، وانكسار عامة الأصوليين، بل والمحققين منهم، الذين ردحوا أن (العدد الكثير) في (المتواتر) لا يحد بعدد معين، وردوا على كل من اشترط عدداً معيناً! فهذا الإمام الشافعي يرد عليهم أيضاً، فيتبين انكاسرهم!!
وهذا ذكرني بعبارةٍ لأحد أئمة الحديث وأئمة الشافعية أيضاً، هو أبو بكر محمد بن موسى الحازمي (ت 584هـ)، حيث قال في كتابه (شروط الأئمة الخمسة): ((وإثبات التواتر في الأحاديث عسر جداً، سيما على مذهب من لم يعتبر العدد في تحديده)) (42).
وأما قول الإمام الشافعي لخصمه: ((أو تعرفه فلا تظهره، لما يدخل عليك))، ففيه إيماء إلى أن (المتواتر) الذي يفيد العلم بتلك الشروط، لا ما رواه أربعة، ولا أربعون! بل ما رواه جيل عن جيل، هذا هو الذي يفيد العلم باستحالة وقوع الكذب ولغلط من نقلته! وهذا هو (خبر العامة عن العامة) الذي زعم قائل (المتواتر) أنه سواه!!
ولما كان (المتواتر) بتلك الصورة لا وجود له في الأحاديث النبوية، سكت ذلك الخصم عن إظهار ما يخفيه، لأن مآل مقالته حينها: أنه لا يحتج بشيءٍ من الأحاديث النبوية، لأنه ليس فيها شيء يفيد العلم بزعمه وعلى شروطه!!!
وهكذا يرد الإمام الشافعي على القائل بـ (المتواتر) شروطه التي وضعها له، قائلاً له: إنها بين شرطٍ لا فائدة في اشتراطه، وشرطٍ لا وجود لخبرٍ تحقق فيه، فكيف تقسم الأخبار باعبتاره؟!
فلا يقال بعد هذا: إن الإمام الشافعي ممن قسم الأ؛ اديث إلى (متواتر و (آحاد)! أو أنه كان راضياً عن (المتواتر) بشروطه عن الأصوليين!!
كيف؟! وهو الهاجر لاسمه، الناقض لشروطه، المجانب لاعتباره!!!
وهنا أكون قد انتهيت من ذكر الأدلة القواطع والبراهين السواطع على أن الإمام الشافعي ليس ممن قسم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد)، بل إنه كان يرد هذا التقسيم ويعيبه كما رأيت.
وعلى هذا فما جاء في كلام الشافعي، مما سيأتي ذكر بعضه إن شاء الله تعالى (43)، من تقسيم السنن إلى: (خبر عامةٍ عن عامة) أو (سنةٍ مجتمع عليها)، ويقابل هذا القسم (خبر الخاصة = فإنه لا يعني به التقسيم المشهور عن الأصوليين، يس القسم الأول عنده هو (المتواتر)، ولا الثاني هو (الآحاد) عندهم.
ومن ثم فليس حكم (خبر العامة عن العامة) هو حكم (المواتر)، ولا حم (خبر الخاصة) هو حكم (خبر الآحاد) نفسه عن الأصوليين!
لكن الحكم سوف نعود إليه مستقبلاً بالتفصيل، ويهمنا هنا معرفة التقسيم الذي كان يرد في كلام الشافعي، ما هو؟ لأنه هو التقسيم الذي كان معتبراً عند علماء الأمة في أزهى عصورها وأقواها تمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن تأكيداً لما سبق، من أن تقسم الإمام الشافعي ليس هو تقسيم الأصوليين، ومدخلاً لبيان تقسيم الشافعي وشرحه =
أقول:
¥