تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما إذا وافق الراوي الثقات أحياناً وخالفهم أحياناً أخرى، ولم تكن المخالفة فاحشة دالة على أنه مغفل وبعيد من الضبط، ولا كانت كثيرة دالة على سوء الحفظ، فإنهم حينئذ يصفونه بكلمة (لا بأس به) أو نحوها.

وأما إذا كان الغالب عليه المخالفة للثقات وكان خطؤه مكافئاً لصوابه، أي على وجه التقريب، ولم يظهر لهم ما يطعن في عدالته فيتهمونه، فإنهم حينئذ يصفونه بالضعف.

فإذن معنى وصف الراوي بالضعف عند علماء الجرح والتعديل هو أن أحاديثه المردودة - التي خالف فيها الثقات ولا يمكن قبولها وتصحيحها بحال - قريبة في عددها من أحاديثه المقبولة؛ أليس الأمر كذلك، بناء على ما تقدم تفصيله؟

إذا علم هذا ونظرنا إلى صنيع المتأخرين في تقوية أحاديث الضعفاء، فماذا يتبين لنا من ذلك؟

يتبين منه أنه لو أضيفت أحاديثه التي وافق فيها الثقات فهي صحيحة بأسانيدها الصحيحة، إلى أحاديثه التي تابعه فيها الضعفاء فهي حسنة أو صحيحة عندهم بمجموع طرقها، لتكون من مجموع النوعين قدَرٌ يزيد كثيراً عن شطر مروياته؛ وهذا لو كان صحيحاً كان معناه أن الراوي لا بستحق التضعيف، بل هو صدوق حسن الحديث في أسوأ الأحوال.

وأنا أقطع بأننا لو اعتمدنا مذهب المتساهلين بالتقوية بكثرة الطرق، واستقرأنا أحكامهم على أحاديث الضعفاء، أعني الضعفاء عند الأئمة، لتبين لنا أن بين الفريقين فرقاً كبيراً في حق كثير من الضعفاء، فهم ضعفاء عند الأئمة وهم أقوياء بمقتضى صنيع المتساهلين؛ وإن تيسر الوقت فسأقوم إن شاء الله بقدر كاف من الاستقراء في هذه القضية.

هذا أحد أقوى أدلة التساهل الذي وقع فيه أكثر المشتغلين بالتخريجات من المتأخرين.

وفيما يلي مثال افتراضي على ذلك أسوقه لأجل زيادة الإيضاح وبيان المقصود:

إذا أخذت راوياً ضعفه الأئمة، ثم جمعت حديثه من الكتب المسندة وغيرها وتبين لك مثلاً أنه قد روى عشرين حديثاً؛ فماذا تظن سلفاً بهذه الأحاديث؟ ماذا يعني الأئمة بوصفهم لهذا الراوي بالضعف، بالنسبة لأحوال هذه الأحاديث العشرين، باعتبار الكلام المتقدم؟

إذا قدرنا أن هذه الأحاديث العشرين هي كل ما رواه هذا الرجل، فلا شك حينئذ أن تضعيفهم له يعني أنه قد أخطأ في نحو عشرة أحاديث منها، أو أقل بقليل؛ وعلى كل حال فهو لا بد أن يكون قد أخطأ في ثلثها – على الأقل – ليقال فيه: ضعيف؛ وأن تلك الأحاديث التي أخطأ فيها – قطعاً أو ظناً – تتراوح أحكامها ما بين باطل وضعيف جداً؛ وأن ما خالف منها أحاديث الثقات فإنه لا يصلح للتقوية لأنه منكر والمنكر - كما يقول الإمام أحمد - أبداً منكر.

ويعني تضعيفهم له أيضاً أن الأحاديث الأخرى لم يضبطها كما ضبطها الثقات المتقنون، فتراه مرة يرويها بالمعنى، ومرة يزيد، ومرة ينقص، ولكن تلك الزيادة وهذا النقص واقعان في أمور يسيرة ومعان محتملة، بحيث يعد في تلك الأحاديث، أعني التي لم يحكم عليه فيه بالخطأ المعتبر، موافقاً للثقات في الجملة.

فإذا رجعت إلى المكتبة وغيرها ووجدت خمسة من أحاديث هذا الراوي، مثلاً، وردت في الصحيحين وفي كتب أخرى بأسانيد صحيحة، ثم رجعت فجمعت كلام أكثر المتأخرين على أحاديث الراوي نفسه ووجدتهم يحكمون بالثبوت، أعني الصحة والحسن، على عشرة من بقية أحاديثه مستندين في تصحيحها وتحسينها على كثرة طرقها؛ إذن صار نسبة ما رواه من الأحاديث الثابتة ثلاثة أرباع مروياته، وهي قابلة للزيادة بحسب ما يدل عليه الواقع.

لقد حكموا بالصحة لكل أحاديثه فلم يبق منها إلا خمسة، بل وبعض هذه الخمسة تنتظر من يقويها بكثرة الطرق أيضاً! ولن تعدم من يفعل ذلك (1)!

فماذا يعني ذلك؟

ماذا يعني تقوية هذه الأحاديث الخمسة عشر بالنسبة لحال الراوي؟

ألا يعني ذلك أنه (صدوق) أو (لا بأس به)؟

الجواب: نعم، لأن الحكم على الراوي هو – في أصله – فرع من الحكم على مجموع حديثه عند الأئمة؛ وإن انعكس الأمر عند غيرهم ومن تأخر عنهم بسبب التقليد والنقص في العلم فصار الحكم على حديث الراوي فرع الحكم على ذلك الراوي.

والحاصل أن الأئمة وعلماء العلل ضعفوه وأن المتأخرين، أو المتساهلين منهم، صنعوا في أحاديثه ما يقتضي تقويته.

فمن المصيب من الفريقين، ومن المحق من الطائفتين؟

هذا ما أردت التنبيه عليه في حق هذه المسألة العظيمة الخطيرة.

أنتظر المشاركة والتعليق، وإن شاء الله لن أضيق ذرعاً بتعقبٍ واعٍ أو استدراكٍ مؤصَّل؛ والله يوفقني وإياكم إلى الحق بإذنه، هو حسبنا ونعم الوكيل.


هامش
(1) ولعلك تقول: هم لم يصححوا كل تلك الأحاديث بل بعضها صححوه وبعضها حسنوه، وأنت أطلقت التصحيح؛ فأقول: هذا لم يقع سهواً مني، بل فعلته عمداً، لأنهم لا يفرقون من الناحية العملية بين الصحيح والحسن فكلاهما حجة بنفسه ولا يجوز لك أن تحكم على حديث حسن عندهم بالشذوذ إذا خالف الحديث الصحيح!
فكان الأولى ما دام الأمر كذلك أن لا يقسموا الأحاديث الثابتة إلى قسمين بل يجعلوها قسماً واحداً.
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير