((على أنَّا قد ذكرنا أساميَ كثيرةً مهملةً من الجرحِ والتعديلِ، كتبناها ليشتملَ الكتابُ على كلِّ من رُوِيَ عنه العلمُ رجاءَ وجودِ الجرحِ والتعديلِ فيهم؛ فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى)).
فنخرجُ من قولِ ابنِ أبي حاتِمٍ:
أولاً: أنَّ في كتابِهِ أسماءُ رواةٍ لم يتكلمْ عليهم بجرحٍ أو تعديلٍ، وهم المجاهيلُ جهالةَ الحالِ كما سيأتي بيانُهُ بعدَ قليلٍ.
ثانياً: أنَّه كَتَبَ هذه الأسماءَ ليشملَ كلَّ من رُوِيَ عنه العلمُ.
ثالثاً: وأنَّه يرجو أن يجدَ الجرحَ أو التعديلَ فيهم.
لكن لم يتحقَّق له هذا الرجاء في كتابهِ؛ فقد وافته مَنيَّتُهُ ـ رحمه اللَّهُ تعالى ـ وترك لمن بعده تحقيقَ هذا؛ فكثُر الخلافُ واللَّغَطُ على ما كان يقصدهُ من ذلك؛ فزعم من زعم من أهلِ زمانِنا أنَّ سُكُوتَهُ عن الرَّاوي ـ بمعنى أَّنه يكتفي بمجردِ ذِكْرِ شيوخِهِ وتلامذتِهِ، ثم لا يُعقبه بإيرادِ جرحٍ ولا تعديلٍ فيه ـ هو بمثابةٍ توثيقٍ له؛ ليس كذلك؛ فكلامُهُ هذا صريحٌ في ردِّ هذا المزعمِ. وإنما مَنْ سَكَتَ عنه، ولم يَرِد فيه جرحاً ولا تعديلاً من قِبَلِ غيرِهِ من النُّقَّادِ المعتمدينَ ـ يخرجُ من ذلك توثيقُ ابنِ حبَّانَ المتفرِّد بِهِ عَلَى شَرْطِهِ الذي اشْتَرَطَهُ فِي أَمثالِ هؤلاءِ، أو توثيقُ غيرِهِ من المتساهلينَ كالعجليِّ، وابنِ سعدٍ، وابنِ قانعٍ ـ؛ فحكُمْهُ أنَّه مجهولُ الحالِ في الغالبِ، كما سنُبيِّنُ الآن؛ وهذا حُكْمُ توقُّفٍ وليس نهائياً.
وقد جمع الحافظُ في ((التَّقريبِ)) بين من لم يرد فيهم جرحاً ولكن ورد فيهم توثيقاً من جهة مثل ابنِ حبَّان وتفرَّد بهذا التوثيقِ، وليس لهذا الرَّاوي من الحديثِ إلاَّ القليلِ، ولم يثبتْ فيه ما يُترَكُ حديثُهُ من أجلِهِ؛ فإِنَّه ابتكر لفظاً جديداً في هذا الجمعِ؛ وهو لفظُ ((المقبولِ))؛ وبيَّن مقصودَهُ منه؛ فقال في تقدمة ((تقريبه)) في المرتبة السادسة من مراتب أحوال الرَّواةِ عنده: ((مقبولٌ، حيثُ يُتابع؛ وإلاَّ فَلَيِّنُ الحديثِ)). فاتجه كلامُ الحافظِ إلى الرِّواية لا إلى ذات الراوي؛ فقوله ((مقبول)) ليس بحكمٍ نهائيٍّ، ورتبتُهُ السَّادسةُ ليست رتبةً حقيقةً وإِنَّما هي رتبةٌ انتقاليةٌ؛ فقد تتبدَّلُ إمَّا في رتبةِ الجرحِ أو رتبةِ التعديلِ، إذا توفَّرتِ القرائِنُ والأدلَّةُ بعدَ ذلك.
ـ وقد يكون الرَّاوي مجهولَ العينِ ـ.
وهذا أيضاً هو صنيعُ أبي عبدِ اللَّهِ البخاريِّ ـ رحمه اللَّهُ ـ في كتابه ((التاريخِ الكبيرِ))؛ فقد ترجم لرواةٍ؛ ولم يحك فيهم جرحاً ولا تعديلاً؛ وليس في هذا نصٌّ من أبي عبد اللَّهِ وإنَّما هو مستخلصٌ بالاستقراءِ، ومن هذا الصنيع استفاد ابنُ أبي حاتمٍ، ولكنَّه ما أغار على كتابِ أبي عبدِ اللَّه كما زعم البعضُ، وإن كان له بعدُ رسالة في ((بيانِ خطإ البخاريِّ في كتابه))، لكن أكثر كلام ابن أبي حاتمٍ مدفوعٌ بالأدلة، وأنا البخاريِّ قد برئتْ ساحتُهُ من أكثرِ هذه الإِلزاماتِ، وقد طُبعتِ الرِّسالةُ بتحقيقِ ذهبيِّ العصر العلامة الشيخ عبد الرحمنِ بنِ يحيى المُعَلِّميِّ اليَمَانيِّ ـ رحمه اللَّهُ ـ، وقد نافحَ عن البخاريِّ على طريقتِهِ الصَّافِيَةِ الشَّافِيَةِ في النَّقِدِ والتَّحْرِيرِ والإِفَادِةِ والَّتي تدفعُ بالاعتراضِ دَفْعَاً.
والحاصلُ: أن ابنَ أبي حاتمٍ والبخاريِّ كانا عندهما أن من سُكِت عنه، ولم يرد فيه جرحاً ولا تعديلاً هو مجهولُ الحالِ والوصفِ، وليس بمجروحٍ، أو ثقةٍ؛ فلو كان غيرَ ذلك لما قال ابنُ أبي حاتمٍ عبارتَهُ المتقدِّمَةِ: ((على أنَّا قد ذكرنا أساميَ كثيرةً مهملةً من الجرحِ والتعديلِ، كتبناها ليشتملَ الكتابُ على كلِّ من رُوِيَ عنه العلمُ، رجاءَ وجودِ الجرحِ والتعديلِ فيهم)).
ثم استُخلصتْ في زمانِنا القَاعدةُ المشهورةُ الصَّحيحةُ: ((أنَّ كلَّ من سكت عنه البخاريُّ وابنُ أبي حاتمٍ في كتابيهِما، أي لم يحكيا فيه جرحاً ولا تعديلاً؛ فهو مجهولُ الحالِ))، والعمدةُ في ذلك رسالةُ الشيخِ الفاضلِ / عدَّاب بنِ محمودٍ الحِمش، والموسومةِ بـ ((حُكْمِ رُوَاةِ الحَدِيثِ الَّذِينَ سَكَتَ عنهم أَئِمَّةُ الجرحِ والتعديلِ))، وهي نافعةٌ في بابها، وفيها غُنيةٌ عن ذكرِ الأمثلةِ هنا.
وممَّن تَبَنَّى هذه القاعدةَ وانتصر لها شيخُ المحدثين الشيخُ / محمَّد ناصر الدين الألبانيُّ ـ رحمه اللَّه ـ.
*بيان: قد يسكتُ البخاريُّ عن بعضِ الرُّاوة في ((التاريخِ)) ثمَّ يُوردهم في ((كتابِ الضُّعَفاءِ)) ذاكراً فيهم تضعيفَهُ لهم أو حاكياً عن غيرِه من النُّقَّاد.
وكذا ابنُ أبي حاتم ثم تجدَه قد حكى عن أبيه أو أبي زُرعَةَ في كتاب ((عللِ الحديثِ)) فيهم جرحاً أو تعديلاً، أو تصريحَاً بالجهالةِ لفظاً، لكن لم يتسنى له نقل ذلك إلى كتابِ ((الجرحِ والتعديلِ)).
والحاصل: أنَّ الجهالةَ ليست جرحاً، وإنما هي توقفٌ لحين توافرِ الأدلةِ والقرائنِ والدَّوَاعي التي تبين حالَ الرَّجلِ إمَّا بجرحٍ أو تعديلٍ، أو عدمِهِ، واللَّه المعين، وجزاكم اللَّه عني خيراً.
¥