قلت: قد كثر هجر القرآن في هذا الزمن، وهذه مصيبة عظيمة وإنا لله وإنا إليه راجعون؛ ومن أنواع هجره الإنشغال عنه بغيره مما يظنه بعض الناس ديناً وليس بدين، أو مما يظنون الاشتغال به أولى من الاشتغال بالقرآن، وليس كذلك؛ كهجر بعض أفراد الأحزاب السياسية الدينية للقرآن انشغالاً عنه بالتحليلات والكتب الفكرية، أو انشغال بعض الدعاة عنه بالدعوة؛ أو انشغال بعض طلبة الحديث عن القرآن، زاعمين أنهم يحبون السنة، ويحيونها؛ والحق أن السنة لا تحيا إلا بالقرآن، ومن لم يحب القرآن فلا يمكن أن يحب السنة حباً صحيحاً صادقاً.
(2)
(((حفظ السنة)))
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: (سمعت البخاري يقول: لا أعلم شيئاً يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة، فقلت له: يمكن معرفة ذلك كله؟ قال: نعم). نقله الذهبي في السير (12/ 412).
وقال العراقي في (شرح ألفيته) (1/ 267): (وروينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث؛ وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلاً هم أن يكذب في الحديث لأسقطه الله، وروينا عن ابن المبارك قال: لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب).
وقال المعلمي في (الأنوار الكاشفة) (ص33): (وأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضاً، لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه، وهو السنة، وحفظ لسانه، وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية بحيث ينالها من يطلبها، لأن محمداً خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع، بل دل على ذلك قوله (ثم إن علينا بيانه)، فحفظ الله السنة في صدور الصحابة والتابعين حتى كتبت ودونت كما يأتي، وكان التزام كتابتها في العهد النبوي شاقاً جداً، لأنها تشمل جميع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله وما يقوله غيره بحضرته أو يفعله وغير ذلك؛ والمقصود الشرعي منها معانيها، ليست كالقرآن، المقصود لفظه ومعناه، لأنه كلام الله بلفظه ومعناه، ومتعبد بتلاوته بلفظه بدون أدنى تغيير، لا جرم خفف الله عنهم واكتفى من تبليغ السنة غالباً بأن يطلع عليها بعض الصحابة، ويكمل الله تعالى حفظها وتبليغها بقدرته التي لا يعجزها شيء؛ فالشأن في هذا الأمر هو العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أمر به التبليغ الذي رضيه الله منه، وأن ذلك مظنة بلوغه إلى من يحفظه من الأمة ويبلغه عند الحاجة ويبقى موجوداً بين الأمة.
وتكفُّل الله تعالى بحفظ دينه يجعل تلك المظنة مئنة، فتم الحفظ كما أراد الله تعالى.
وبهذا التكفل يدفع ما يتطرق إلى تبليغ القرآن، كاحتمال تلف بعض القطع التي كتبت فيها الآيات، واحتمال أن يغير فيها من كانت عنده، ونحو ذلك.
ومن طالع تراجم أئمة الحديث من التابعين فمن بعدهم وتدبر ما آتاهم الله تعالى من قوة الحفظ والفهم والرغبة الأكيدة في الجد والتشمير لحفظ السنة وحياطتها بانَ له ما يحير عقله، وعلم أن ذلك ثمرة تكفل الله تعالى بحفظ دينه، وشأنهم في ذلك عظيم جداً، إذ [بالأصل: أو] هو عبادة من أعظم العبادات وأشرفها؛ وبذلك يتبين أن ذلك من المصالح المترتبة على ترك كتابة الأحاديث كلها في العهد النبوي، إذ لو كتبت لانسد باب تلك العبادة، وقد قال الله تعالى: (51: 56 وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
وثم مصالح أخرى منها تنشئة علوم تحتاج إليها الأمة، فهذه الثروة العظيمة التي بيد المسلمين من تراجم قدمائهم، إنما جاءت من احتياج المحدثين إلى معرفة أحوال الرواة، فاضطروا إلى تتبع ذلك وجمع التواريخ والمعاجم، ثم تبعهم غيرهم.
ومنها [أي المصالح] الإسناد الذي يعرف به حال الخبر، كان بدؤه في الحديث ثم سرى إلى التفسير والتأريخ والأدب.
هذا والعالم الراسخ هو الذي إذا حصل له العلم الشافي بقضية لزمها، ولم يبال بما قد يشكك فيها، بل إما أن يعرض عن تلك المشككات، وإما أن يتأملها في ضوء ما قد ثبت.
فههنا من تدبر كتاب الله وتتبع هدى رسوله ونظر إلى ما جرى عليه العمل العام في عهد أصحابه وعلماء أمته بوجوب [كذا في الأصل، ولعل صواب العبارة: (قطع بوجوب)] العمل بأخبار الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها من صلب الدين.
¥