وتشديده صلى الله عليه وسلم في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يبعثون رسلهم ونوابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم، فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلغوا المعنى فقد صدقوا؛ ولو قلت لابنك: إذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك، فذهب وقال له: والدي – أو الوالد – يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعاً صادقاً، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك.
وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيراً من أقوال خلقه بغير ألفاظهم لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر.
فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال: (نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فأداه كما سمعه، فرب مبلَّغ أوعى من سامع)، جاء بهذا اللفظ أو معناه مطولاً ومختصراً من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وأنس بن جبير بن مطعم وعائشة وسعد وابن عمر وأبي هريرة وعمير بن قتادة ومعاذ بن جبل والنعمان بن بشير وزيد بن خالد وعبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى معونتهم على الحفظ والفهم كما مر (ص43).
واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة؛ ومنها ما أصله قولي ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا----وأشباه هذا؛ وهذا كثير أيضاً.
وهذان الضربان ليسا محل نزاع؛ والكلام في ما يقول الصحابي فيه: قال رسول الله كيت وكيت، أو نحو ذلك.
ومن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حكوا قوله صلى الله عليه وسلم يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك؛ ومع هذا فقد عُرف جماعة من الصحابة كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وتقدم (ص42) قول أبي رية: إن الخلفاء الأربعة وكبار الصحابة وأهل الفتيا لم يكونوا ليرضوا أن يرووا بالمعنى؛ وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما آتاهم؛ وقصة ابن عباس مع عمر بن أبي ربيعة مشهورة. ويأتي في ترجمة أبي هريرة ما ستراه.
فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك، لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم). واقرأ تتمة كلام المعلمي هناك إلى أواخر (ص87).
(15)
(((مسند وتفسير بقي بن مخلد)))
نقل الضبي في (بغية الملتمس) (ص230) عن ابن حزم قال: (فمن مصنفات أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد: كتابه في تفسير القرآن، فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه، أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، لا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره؛ ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمئة صاحب ونيف، ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام؛ فهو مصنف ومسند؛ وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله فيه في الحديث وجودة شيوخه، فإنه يروي عن مئتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء وسائرهم أعلام مشاهير ----).
قلت: يظهر أن مستند القائلين أن بقي بن مخلد لا يروي إلا عن ثقة، ومنهم الحافظ ابن حجر هو هذا الكلام الذي قاله ابن حزم، أو ما نقله عن بقي نفسه مغلطاي إذ قال في (إكمال تهذيب الكمال): (وفي تاريخ قرطبة: قال بقي: كل من رويت عنه فهو ثقة) (6).
***********
(16)
(((قلة الأحاديث المرفوعة المتداولة بين القدماء)))
أسند الخطيب في (الجامع) (2/ 284) إلى أبي نعيم الفضل بن دكين أنه قال لمحمد بن يحيى بن كثير: (سلْني ولا تسلني عن الطويل ولا المسند، أما الطويل فكنا لا نحفظه، وأما المسند فكان الرجل إذا والى بين حديثين مسندين رفعنا إليه رؤوسنا استنكاراً لما جاء به).
¥