ومما يؤيدها أيضاً قول مصطفى بن إسماعيل في (إتحاف النبيل) (1/ 44 - 45)، وهو: (ولا بد أن يعلم أن كلام المتشدد والمتساهل لا يهدر بالمرة إذا انفرد بالكلام على الراوي، والمتأمل في صنيع الحافظين الذهبي وابن حجر يجد اعتمادهما كلام المتشدد أكثر من اعتمادهما كلام المتساهل)؛ أقول: فهل لهذا معنى سوى أن النفس تركن إلى قول الموصوف بالتشدد أكثر من ركونها إلى ما يناظره، أعني قول الموصوف بالتساهل؛ وهل جاء ذلك الركون إلا من اقتناع الناقد المطلع كالذهبي وابن حجر بأن أكثر الموصوفين بالتشدد يغلب في أحكامهم الاعتدال أكثر من غلبته في أحكام المتساهلين؛ أي أن حال أكثر الموصوفين بالتشدد أقرب إلى الاعتدال من حال أكثر الموصوفين بالتساهل؟!
@@@@@@
(25)
(((ضرورة ملاحظة احتمالات معاني التساهل والتشدد في عبارات العلماء)))
مما ينبغي التنبه له هو أن بعض النقاد قد يطلق وصف الراوي أو الناقد بالتشدد وهو لا يريد أكثر من نفي التساهل عنه، فليتنبه لهذا الاحتمال.
@@@@@@
(26)
(((عدم قدح تساهل الناقد العالم أو تشدده في عدالته ولا في الاعتماد على علمه في الجملة)))
إن التساهل والتشدد الواقعين من بعض المحدثين غير قادح في علماء هذا الفن وغير مانع من كونهم أئمة فيه، قال الذهبي في (الموقظة) (ص84): (وقد يكون نفَس الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطف منه فيما كان بخلاف ذلك؛ والعصمة للأنبياء والصديقين وحكام القسط (3)، ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمداً ولا خطأً؛ فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف).
@@@@@@
(27)
(((مظان تأثير تشدد الناقد أو تساهله)))
من ثبت من النقاد الثقات أنه متشدد أو متساهل في نقده فليعلم أن تشدده أو تساهله لا دخل له في الأمور التالية:
الأمر الأول: الأحكام التي يرويها عن غيره، لأنه هنا ناقل لا ناقد.
الأمر الثاني: ما يذكره من تفسير لأحكامه أو أحكام الآخرين إذا كانت تلك الأحكام لا تحتمل وجوهاً من المعاني والتفاسير والتأويلات.
الأمر الثالث: ما يذكره من أدلة على صحة أحكامه أو أحكام غيره عنده.
الأمر الرابع: أحكامه التي يقولها من عند نفسه في غير مظان تشدده أو تساهله.
وإنما ينحصر أثر ذلك في أمرين:
الأول: نفس أحكامه التي يقولها من عند نفسه في مظان تشدده أو تساهله، لأنه وإن كان يقولها بناء على ما علمه أو بلغه من حال الرواة فإنها تحتمل احتمالاً قوياً أن تكون مصطبغة بذلك الوصف، مشربة إياه.
والثاني: ما يذكره من إيضاح وتفسير لأقوال العلماء في الرواة وأحكامهم عليهم، إذا كان ذلك الإيضاح أو التفسير مما يعتريه الاختلاف والاجتهاد ويدخل في أبواب الاحتمالات والظنون.
@@@@@@
(28)
(((ضرر التشدد والتساهل في النقد)))
على المشتغل بتخريج الأحاديث ونقدها ونقد رواتها أن يجتنب – ما وسعه ذلك - التشددَّ والتساهل ويتحرى الوسطية والإنصاف؛ قال الحافظ ابن حجر في (نزهة النظر) (ص113): (ليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل، فإنه إن عدّل بغير تثبت كان كالمثبت حكماً ليس بثابت فيخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب؛ وإن جرّح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً).
@@@@@@
(29)
(((ضرر التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة وبيان ما تفرع عن ذلك التساهل)))
التساهل في رواية الحديث الضعيف أو نشره بين الناس أو العمل به أمر عظيم خطره سيئة عاقبته وإليك كلام المعلمي رحمه الله، وقد بين فيه كيف بدأ التساهل بالعمل في الأحاديث الضعيفة، وما هو المخرج.
تكلم المعلمي في (الأنوار الكاشفة) (ص87 - 88) على ما ينسب إلى بعض الأئمة من التساهل فقال: (معنى التساهل في عبارات الأئمة هو التساهل بالرواية، كان من الأئمة من إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أو قريب من الصحيح أو يوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده، فإذا كان دون ذلك لم يروه البتة.
ومنهم من إذا وجد الحديث غير شديد الضعف وليس فيه حكم ولا سنة، إنما هو في فضيلة عمل متفق عليه كالمحافظة على الصلوات في جماعة ونحو ذلك لم يمتنع من روايته، فهذا هو المراد بالتساهل في عباراتهم.
¥