العلوم وسقمت فيه الفهوم وهجرت فيه العربية وبعدت فيه - بسبب ازدحام الفلسفات وارتطام الجهالات - الشقة على من أراد الرجوع إلى جادة سلف هذه الأمة الأمية، والله المستعان.
إن تعريف اصطلاحات أهل هذا الفن الخطير على وجه التحقيق والتفصيل والتدقيق والتحليل وتبيين حقائقها عندهم وإظهار فوارقها بينهم وكشف عباراتهم فيها وإشاراتهم بها واستنباط دقائقها وتفاصيلها والتنبيه على كل – أو معظم – ما وقع في ذلك من التفرد والشذوذ والتنوع والتباين والخلاف: مطلبٌ الوصولُ إليه – كما لا يخفى - غير يسير ودربٌ السائرون عليه قديماً وحديثاً غير كثير؛ وكيف يسهل أن يسلك المرء ذلك المسلك في شرح مقاصد العلماء – على اختلاف أعصارهم وأمصارهم وتباين مناهجهم ومدارجهم – فيما اصطلحوا عليه من الكلمات أو استعملوه من غريب الأساليب وخفي العبارات! ولا سيما إذا كان عن دقيق علمهم منعزلاً وعن رفيع منزلهم نازلاً! ولكن مثل هذا الموضوع لا بد – لشدة الحاجة إليه – من طرق بابه، ولا مندوحة – لعظم الانتفاع به – عن محاولة كشف حجابه، ولا سيما في مثل الزمان الذي كثر فيه الكلام على الأحاديث تصحيحاً وتعليلاً وعلى رجالها تجريحاً وتعديلاً وعلى اصطلاحاتها وقواعدها توضيحاً وتأصيلاً؛ وكثر في ذلك كله الجرأة والتعالم والتقليد، وغيرها من الآفات التي حذر منها العلماء وخافها على أنفسهم العقلاء الأتقياء.
إن هذا الذي أسلفت بيانه هو – كما تقدمت الإشارة إليه - أهم ما دفعني إلى جمع هذا الكتاب عسى أن يكون خطوة واسعة في هذا الدرب البعيد؛ وفكرة نافعة في هذا الدرس الجديد أو شبه الجديد.
وهذا الكتاب جمعته من كتب كثيرة للمتقدمين والمتوسطين والمتأخرين والمعاصرين، ولكني أكثرت فيه من الاعتماد على كلام أئمة الحديث وعلماء العلل والمعاصرين من الباحثين المتقنين دون غيرهم؛ بعد أن أجريت عليه ما يناسب المقام – أو يحتاجه الكلام – من التقريب والتلخيص، أو التهذيب والتمحيص.
ولقد سلكت في شرح معاني المصطلحات مسلكاً وسطاً أرجو به أن يكون بوسع أكثر قراء كتب الحديث الانتفاع به أي بالكتاب، وفهم مقاصده، فتوخيت فيه – قدر المكنة والطاقة - الاستيعاب والاختصار والدقة ووضوح العبارة وسهولتها وتجنبت ما ينافي تلك المقاصد من ذكر أصل اشتقاق الكلمة في اللغة - إلا عند الحاجة – والاستطراد الممل والتفصيل الزائد والتكرار والعزو إلى العلماء وصعوبة التراكيب وغرابة الأساليب والتطويل بالتمثيل ونحو ذلك، تاركاً المهم من ذلك كله ونحوه لأظهره إن شاء الله تعالى في كتابي المفصل المبسوط في هذا الموضوع، والذي هو أصل هذا المعجم الذي بين يديك.
وأما شرطي في الكتاب فهو أني أقتصر فيه على مصطلحات المحدثين وما جرى مجراها من غامض عباراتهم وغريب كلماتهم، غير عامد إلى ذكر شيء من قواعد المحدثين أو ملتفت إلى شيء من فروعهم أو غير ذلك، وذلك مقتضى مطابقة مسمى الكتاب لاسمه، ولكنني أدرجت في مواضع غير قليلة منه جملة من القواعد والضوابط وما يتعلق بها، وذلك إما لأن تلك القواعد واردة في أثناء كلام أنقله عن بعض العلماء في شرح بعض الاصطلاحات فلم أشأ حذفها منه، أو لأنها لا يتم وضوح معنى المصطلح ولا تظهر تفاصيله إلا بها، وإما لأني لم أصبر – بسبب كثرة نفعها أو كثرة الحاجة إليها أو عدم اشتهارها – عن ذكرها، وأوردت فيه من الأمثلة ما احتجت إلى ضربه، فهذا عذري في خروجي عن الشرط.
ولقد حرصت فيه على أن أنظر بعين الاعتبار - ما استطعت - في قول كل متكلم في اصطلاحات المحدثين صغيراً كان ذلك المتكلم أو كبيراً، خاملاً كان ذلك القول أو شهيراً، ثم لم يمنعني أن أذكر فيه ما وقفت عليه من فوائد تأخُّرُ قائلها أو صِغَرُه، كما لم يمنعني من تعقب ما عثرت عليه من أخطاء تقدُّمُ صاحبها أو جلالتُهُ، فالعلم يعرف بدلائله لا بقائله؛ ولكني تجنبت في هذا المختصر لأكثر من سبب التصريح بأسماء من انتقدت كلماتهم وآرائهم إلا في مواضع ندرت ومناسبات شذت.
فيا أيها القارئ الحريص على معرفة بعض جمل هذا الفن احرص على قراءة هذا الكتاب بتدبر؛ ولا يوهمنك قلةُ العزو فيه أني لم أكن فيه متحرياً متثبتاً محتاطاً، ولا يوهمنك اختصاره أني لم أطل النفس في تنقيحه وتحريره، ولا يوهمنك يسر العبارة أن الكتاب غير حافل بنفائس الفوائد ودقائق التنبيهات وفرائد المسائل وبدائع التحقيقات؛ وكذلك لا يوهمنك ثنائي هذا بأن الكتاب قد فاق كتب المحققين المتقنين الأفاضل، أو أتى بما عجزت عنه الأوائل؛ فإننا نقطع، بلا ريب، بأنه لا يسلم كتاب مؤلَّف، من نقص أو عيب.
ولكن كتابي هذا أرى أنه يصلح لطبقات من القراء والدارسين ويمتاز بجوانب قد يفتقر إليها غيره من كتب هذا النوع من العلم؛ أرجو الله تبارك وتعالى أن ينفع به المسلمين، وأن يثقل به – برحمته – موازيني يوم تثقل أو تخف الموازين؛ اللهم آمين.
...
هذه مقدمة الكتاب؛ وقد اجتهدت في اختصارها بما يناسب طريقة النشر في الملتقى؛ وتأتي إن شاء الله فصول الكتاب متتابعة؛ وعدد فصوله بعدد حروف المعجم.
أسأل الله العون والتيسير لي ولكم.
ومما لعله أن يكون التنبيه عليه هنا مفيداً هو أن صفحات الكتاب يزيد عددها على المئتين؛ وأن مصطلحات المشروحة يقارب عددها الخمسين والأربعمئة.
ثم الاسم الذي اخترته للكتاب هو:
[((المعجم الميسر في مصطلحات أهل الأثر))
وما التحق بها أو جرى مجراها من غريب أقوالهم وأمثالهم ولطيف إشاراتهم وطريف عباراتهم].
¥