«واتخذنا قاعدة في أن من وصفه أحد الأئمة بالإغراب ثبتنا ذلك وإن لم يقل بها سوى ناقد واحد، فإن المؤلف قد اضطرب في ذلك، لا سيما في أقوال ابن حبان، وهو من أكثر المعنيين بتثبيت حالة الإغراب، على أننا لم نعتد بكل ما قال فيه ابن حبان - وتابعه المؤلف عليه -: (ربما أغرب)، لأن (ربما) تفيد التقليل، وكل ثقة أو صدوق لا يعرى عن ذلك».
أقول: لا ينبغي أن يهدر قول ابن حبان أو غيره من النقاد في الراوي الذي يوثقه: (ربما أغرب)، لأن ذلك الناقد يعلم أن كل الثقات أو أكثرهم ربما يغربون أو يهمون، فما كان ليخص بعضهم عند توثيقه له بهذه الزيادة (ربما أغرب) إلا لفائدة وهي على ما يظهر الإشعار بأنه ليس من ذوي الإتقان الفائق وأنه إذا خالفه ثقة من الذين لم يقل فيهم هذه الزيادة فالأصل تقديم رواية الموثَّق توثيقاً مطلقاً سالماً من هذه الزيادة، على روايته (17).
المأخذ السابع
تشدده في أحكامه
هذا الأمر ذكره محمد عوامة في فهارس (الكاشف) (2/ 555) فقال: «أحكام ابن حجر في التقريب تميل إلى الشدة».
وهذا تلخيص منه لما ذكره في تعليقه على ترجمة مروان بن جناح الدمشقي من الكاشف، حيث قال:
«ووثق مروان أربعة من الائمة، فاعتمد قولهم المصنف [يعني الذهبي] وقال الدارقطني في سؤالات البرقاني (515): (لا بأس به) فاعتمده في (التقريب) (6566)، وهذا المثال - وأمثلة أخرى كثيرة - تلقي الضوء على ميل الحافظ إلى التشدد في مراتب من كتابه (التقريب)» (18).
قلت: الحافظ ابن حجر بريء من التشدد إلا في مسألة إطلاق التوثيق؛ فهو لا يخلو من تعنت فيها، فإنه اقتصر في جماعة حقهم التوثيق المطلق على الحكم لهم بكلمة (صدوق)؛ لأنه وجد بعض العلماء قد قال في ذلك الراوي: "صدوق" (19).
وقد تعقبه في هذه المسألة – أعني تشدده في إطلاق التوثيق التام - مؤلفا (تحرير التقريب) ولكنهما بالغا فوقعا في نقيض موقعه فكانا متساهلين في إطلاق التوثيق على الصدوقين ونحوهم، ومن تساهلهما التزامهما غالباً اختيار التوثيق المطلق على التصديق عندما يردان في الراوي الواحد، والتزامهما التوثيق المطلق لمن أطلق توثيقه واحد أو أكثر من النقاد الذين يتساهلون في إطلاق التوثيق على الرواة الذين حقهم أن لا يزاد فيهم على كلمة (صدوق)، كالخطيب البغدادي ومسلمة بن قاسم وأبي علي الجياني وابن خلفون وابن عساكر والذهبي.
وأما ابن حجر فكان في هذا الباب اكثر تأملاً وأدق نظراً منهما إلى القرائن، فكان يرجح إطلاق التوثيق أحياناً وتجريد التصديق أحياناً فلذا يكثر منه أن يبدل توثيق هؤلاء للراوي – ولو اجتمعوا عليه - بكلمة صدوق لما علم من تساهلهم فيه (20).
تنبيه: مما خالف فيه مؤلفا (تحرير التقريب) ابن حجر وقد يظن أن ابن حجر كان متشدداً في ذلك وأنهما كانا فيه معتدلين، والتحقيق أن ابن حجر كان معتدلاً فيه وكانا فيه متساهلين، هاتان المسألتان التاليتان:
الأولى: أنهما تساهلا في اعتمادهما ما ورد في بعض الروايات من توثيق الرواة لشيوخهم مع أن أولئك الرواة ليسوا من أهل النقد أو أنهم لم يعرفوا به، فلا تعلم صفاتهم في نقدهم ولا معاني مصطلحاتهم فيه؛ وكثير ممن شارك في النقد من غير الأئمة المعروفين يكثر منهم أن يريدوا بالتوثيق مطلق القبول والقوة، وأحياناً مجرد العدالة وعدم الكذب المتعمد، غير ناظرين في تلك الأحكام إلى ضبط الراوي وحفظه؛ ومسلك ابن حجر في هذا الباب أعدل وهو به أعلم.
الثانية: أنهما تساهلا في إطلاق توثيق رجال الصحيحين أكثر مما كان من ابن حجر؛ ويأتي الكلام على حكم رجال الصحيحين.
المأخذ الثامن
تساهله في أحكامه
من تتبع أحكام ابن حجر على الرواة وأحاديثهم وجده لا يخلو من تساهل فيها، ولا سيما في كلامه على الأحاديث؛ وإليك بعض أدلة ذلك وبعض أقوال الباحثين فيه بعد ترتيبي لها على قسمين، الأول: تساهله في نقد الرواة، والثاني تساهله في نقد الأحاديث:
القسم الأول: تساهله في نقد الرواة
قال الشيخ مصطفى بن إسماعيل في كتابه (اتحاف النبيل) (1/ 132) في أثناء كلام له:
«مع أنني أرى كثيراً من أحكام الحافظ الذهبي فيها تساهل، وكذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهناك كثير من المواضع اضطر إلى الأخذ باجتهادهما لعجزي عن الجمع بين أقوال الأئمة، ولدقة نظرهما في النقد وسعة اطلاعهما».
¥