وقبل أن أبدأ بتفصيل شيء من الفروق بين الطائفتين يحسن أن أسميهما، فأصطلح على تسمية الأولى (طائفة علماء العلل والتفصيل)؛ وأصطلح على تسمية الثانية (طائفة علماء الجمل والتأصيل)؛ وسأنبيك عن سر هاتين التسميتين ببيان؛ بل ستفهم أنت ذلك من مجرى الكلام على الفروق بينهما.
إن الفروق الفرعية بين الطائفتين أعني الفروق بينهما في الأحكام على الأحاديث وأسانيدها ورواتها كثيرة لا أريد – بل ولا أقدر – أن أذكرها هنا؛ فذلك خارج عن موضوع هذه المقالة وخارج عن حدود قدرة باحث واحد ولو أطال البحث واسترسل فيه؛ ثم إنه لا ينبغي أن يكون هو المقصود بالدراسة لمنهج الطائفتين، فإنه لا يفي ببيان صفة منهجيهما وحقيقة مذهبيهما؛ وإنما الذي يبين ذلك هو أصول الطائفتين.
فهاتان الطائفتان بينهما فروق أصلية منهجية؛ أرى أنها راجعة إلى أمور خمسة:
أما أولهما: فهو المبدأ والمنطلق، وإن شئت فقل: هو أصل التأصيل في نقد الأحاديث.
وأما الثاني: فهو مقدار الإصابة والخطأ في قواعد الطائفتين.
وأما الثالث: فهو سعة الاطلاع على القواعد الفرعية والضوابط الجزئية والتفاصيل وتفاصيل التفاصيل.
وأما الرابع: فهو مقدار الإصابة والخطأ في هذه المعاني المذكورة في الأمر الثالث.
وأما الخامس: فهو مقدار القدرة على الاستقراء الصحيح ومقدار المكنة من التفريع الصحيح على ذلك الاستقراء، ومدى التأهل للتطبيق الصحيح والاستنباط العميق والملاحظة الدقيقة.
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
وسأتكلم إن شاء الله على كل واحد من هذه الأمور الخمسة بما يبينه؛ فأقول:
أما الأمر الأول:
وهو اختلاف الطائفتين في المبدأ والمنطلق، فإنما معناه هو أن طائفة التفصيل - وسأدعوها أحياناً الطائفة الأولى - لا تعدل بالتفصيل شيء؛ فهي تريد أن تعرف عن كل راو أو سند أو حديث أكمل وأدق ما يمكن أن يُعلم عنه؛ فإن لم يتيسر لها ذلك، انتقلتْ – بعد اليأس من تحصيل هذه المرتبة العليا – إلى مرتبة أدنى منها ولكنها هي أكثر ما يمكن الوقوف عليه من مراتب التفصيل؛ وهكذا تتنازل هذه الطائفة في بحثها ونقدها لكل مسألة، من مقام التفصيل الأعلى المتعذر أو المتعسر، إلى أقرب ما يليه من مقامات التفصيل الممكنة؛ فتنازلها إذن اضطراري لا اختياري؛ وهكذا يستمر التنازل أحياناً إلى أن تبتعد عن التفصيل كثيراً وتقترب من الإجمال جداً، بل قد يكون الحكم مجملاً صرفاً؛ أعني يكون الحكم مستنداً إلى أصل عام؛ مثل أن يردوا الحديث لما فيه من عنعنة راو مدلس مكثر من التدليس؛ لأنهم لا يعرفون عن كيفية تحمل ذلك الراوي لذلك الحديث بل ولا عن عنعنة ذلك الراوي أصلاً، سوى أنه مدلس مكثر من التدليس؛ وهذا بخلاف بعض أحاديث بعض المدلسين فترى النقاد يقولون: فلان المدلس سمع هذا الحديث من شيخه فلان باعترافه أو بشهادة فلان من أقرانه أو تلامذته أو بدلالة كذا وكذا، فلا تضره عنعنته.
ومثال ذلك أيضاً أن يمر بهم تابعي صغير مجهول ولكنه من شيوخ مالك وهم لا يعرفون عنه شيئاً فيقولون: هو ثقة لرواية مالك عنه، مستندين على حكم عام وأصل أغلبي وهو أن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة عنده؛ مع أنه قد عُلم روايته عن عدد يسير من الضعفاء.
فإذن الاستناد إلى القواعد الكبرى والضوابط الواسعة والأصول البعيدة لا يكون – عند الطائفة الأولى – إلا عند فقدان تفاصيلها التي من شأنها أنها تحرص جداً على تحصيلها؛ وهي مع ذلك تتدرج، بل تتدرك، في نزولها من فرع ضيق إلى ما هو أوسع منه فأوسع، مضطرة غير مختارة؛ فهي تحرص على الفروع والتفاصيل وتجمد عليها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، أكثر من جمود أهل الأصول والقواعد على أصولهم وقواعدهم.
فالقواعد والأصول عند الطائفة الأولى وجدت للحاجة واختصار التعبير، ولا يصار إليها ويستند عليها إلا عند فقدان ما يغني عنها ويفْضُلها من العلم الأكثر تفصيلاً والأكمل تصريحاً.
وأما الطائفة الثانية، فإنها ظنت – غيرَ موفقة في كثير من ذلك الظن - أن العلم هو القواعد والأصول، وأن تلك الأصول يجب أن تكون حكماً على التفاصيل؛ وأنه لا يصح أن يقبل قول يخالف قاعدة شائعة أو يخرج عن أصل معتبر إلا بدليل.
¥