تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلو قال عالم من علماء الطائفة الأولى، وهم أئمة العلل والتفصيل: هذا الراوي من شيوخ مالك ضعيف، أو قال: هذا الحديث من أحاديث المدلس الفلاني متصل، قاموا عليه وعارضوه بنحو قولهم: أخالفت الأصل أو نسيته؟ ‍ وهو لم يخالفه ولم ينسه.

فصنيعهم لو تدبرته وجدته من باب تقديم العام على الخاص، أي من باب حمل الخاص على العام؛ وهذا أصل باطل ومنهج لا يستقيم.

فإن قيل: لِمَ فعلت الطائفة الثانية ذلك؟

فالجواب أنهم أُتوا من أمور:

أولها: نقص في الوقوف على التفاصيل أدى بهم إلى الغلو في القواعد والأصول.

الثاني: النظرة المنطقية التي تدأب وتحرص على أن تجعل كل فرع داخل تحت أصل عام لا ينبغي أن يخرج عنه إلا في حالات نادرة جداً ولأدلة تكون كالشمس في وضوحها؛ وهذه النظرة المنطقية تسربت إليهم من محدثي الفقهاء، ومن الفقهاء والأصوليين المتأثرين بعلم المنطق والكلام.

الثالث: عدم فهمهم - أو عدم تيقنهم - أن القواعد إنما أوجدها أصحاب الطائفة الأولى، بل وأصحاب كل علم صحيح، ليكون الاستناد إليها والتفريع عليها عوضاً عن التفاصيل عند فقدانها؛ وملجأ للباحثين عند تعذر المعرفة التحقيقية الدقيقة.

الخامس: عدم فهمهم – أو عدم تيقنهم – أن القواعد والأصول إنما هي في أصلها قائمة على الأحكام الفرعية ومستندة إليها؛ فالراوي الذي قال في النقاد: (هو ضعيف) إنما قالوا ذلك فيه بعد أن استقرأوا أحاديثه وتتبعوا طرقها ونظروا في كل ما يتعلق بها مما شأنه أن يعين على التوصل إلى معرفة ما يليق بها من حكم وما تستحقه من وصف؛ وعند ذلك وصفوا ذلك الراوي بكلمة وجيزة تكون دلالة على حاله في الجملة لتكون أصلاً في أحاديثه، فيلجأ إلى هذا الأصل الناقد الذي لم يعرف تفاصيل حديث بعينه من أحاديث ذلك الراوي، فيحكم عليه بهذا الحكم العام الأغلبي الأصلي، لاضطراره إليه.

فالراوي الذي قالوا فيه: (ضعيف) ليس معنى قولهم هذا هو أنهم وجدوا كل أحاديثه ضعيفة فوصفوا الراوي بالضعف؛ بل معناه أنهم وجدوه روى أحاديث مستقيمة وأحاديث أخطأ فيها، وأحاديث لم يتبين أمرها وهي محتملة، فعلموا أنه إن كان لا بد من وصف حال هذا الراوي بكلمة واحدة أو بعبارة وجيزة فأعدل شيء في حقه هو هذا الاصطلاح أعني كلمة (ضعيف).

إن أقرب ما يوضح معنى هذا الحكم المجمل هو أن يقال: إن معناه في اللهجة الدارجة في المدارس هو (المعدل)، فمعدل هذا الراوي في أحاديثه هو أنه ضعيف؛ كشأن المعدلات في المدارس؛ فمثلاً الطالب الذي يكون معدله (جيد) فهل معنى ذلك أنه جيد في كل علم من العلم التي اختبر فيها؟ الجواب كما هو معلوم: لا؛ فالجيد معناه أن حصل على درجة بين الستين والسبعين، ولكن هذه الدرجة هي المعدل الإجمالي لدرجاته في كل الدروس؛ فلو جئت إلى تفاصيل درجاته تجده متفوقاً في بعض الدروس وقريباً من التفوق في أخرى وتجده متوسطاً في بعضها وضعيفاً في بعض آخر، بل ربما يكون فاشلاً في درس أو درسين أو أكثر فلا يلزم من كون معدله جيداً أن يكون ناجحاً.

[(((هامش))): ولعل هذا المثال ينطبق على حال الراوي الموصوف بأنه صدوق أو الموصوف بأنه حسن الحديث. انتهى الهامش].

هذا مثال لتقريب المسألة وتوضيحها لبعض الأخوة المبتدئين في دراسة وتصور هذه القضية قضية الفروق بين الطائفتين.

وبعد هذا أسأل قائلاً:

إذا حكم الناقد الذي ضعف ذلك الراوي الضعيف، للسبب المتقدم، على حديث من أحاديثه بأنه صحيح، فهل من العلم الصحيح أو العدل والنصفة أن نرد قوله بنحو قولنا: كيف تصحح حديثه وهو راو ضعيف؟

إن معنى ذلك الاعتراض هو أننا قلنا له: كيف ضعفته وصححت حديثاً من أحاديثه؟

ولكن له – أو لمن ينصره – أن يسألنا متعجباً:

(كيف قبلتم أحد قوليَّ فيه ورددتم قولي الآخر؛ قبلتم تضعيفي له ورددتم استثائي من هذا الحكم العام حديثاً بعينه أنا علمت أنه أخطأ فيه أثناء استقراء أحاديثه من أجل أن أتوصل إلى الحكم عليه – أي على الرجل – بكلمة مجملة؛ فالحكم على الراوي عندي فرع من الحكم على جملة أحاديثه؛ فلمَ عكستم أنتم المسألة في حقي وجعلتم الحكم على كل حديث من أحاديثه فرعاً من الحكم العام المجمل الذي جعلته للراوي من أجل أن يكون أصلاً في أحاديثه يصار إليه عند الحاجة، وليس من أجل أن يكون نصاً في كل حديث حديث منها؟ ما لكم كيف تقدمون الأثر على العين والعام والخاص والغائب على الشاهد؟!)

وله أيضاً أن يسألهم: ما هو مستندكم في رد قولي في وصف الحديث المذكور أنه صحيح؟ وعليهم أن يجيبوا بقولهم: مستندنا في ذلك الرد هو قولك في الراوي إنه ضعيف!!

نعم، كيف يستقيم ذلك الاعتراض ويتجه ونحن ما تعلمنا ضعف هذا الراوي إلا من ذلك الناقد؛ أفيصح أن نخطّئ من علم من التفاصيل ما لم نعلم مجمله إلا منه؟! إن هذا لهو موضع المثل الشهير:

وكنت أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني

إن المبدأ وأصل الأصول عند أئمة العلل والتفصيل هي التفاصيل، وإن أصل الأصول عند علماء القواعد والأصول هي تلك الأصول عليها يجمدون وعنها يدافعون؛ وليسوا سواء؛ والله المستعان.

هذا؛ وللحديث إن شاء الله بقية؛ فانتظر.

والحمد لله صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وحزبه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير