تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

9. تقوم الطائفة الثانية - في كثير من الأحيان - عند استقراء أحاديث الراوي باستقراء كل ما روي عنه وتتوسع في بناء الحكم على أساس من تلك المرويات، مع احتمال أن كثيراً من ذلك المروي لا يصح إلى ذلك الراوي، وإنما يكون قد أخطأ عليه فيه الرواة، عمداً أو وهماً، وبذلك تختلف الأحكام على الرواة بين الطائفتين؛ وأما الطائفة الأولى فهي في هذا الباب – بل وسائر أبواب النقد – أكثر علماً وأدق فهماً وأكمل تثبتاً وأعمق وأبعد نظراً؛ فلا تعتبر حال الراوي إلا بما ترى أنه قد ثبت أنه رواه، دون ما روي عنه مما لم يثبت إسناده إليه.

ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[29 - 11 - 05, 02:12 م]ـ

وأما الفرق الخامس:

وهو مقدار القدرة على الاستقراء الصحيح ومقدار المكنة من التفريع الصحيح على ذلك الاستقراء، ومدى التأهل للتطبيق الصحيح والاستنباط العميق والملاحظة الدقيقة؛ فأقول في شرح هذا الفرق مستعيناً بالله:

هذا الفرق يتعلق بقوة الفهم ودقة الملاحظة وحسن تصور المسألة أكثر من تعلقه بأي شيء آخر؛ ولبيان بعض حقيقة هذا الفرق أقول:

العالم لا يكون عالماً إلا إذا كان عنده نصيب كاف من ثلاثة أنواع من القوة: قوة حافظة، وقوة مستقرئة، وقوة مستنبطة؛ والعلماء يتفاوتون في علمهم بحسب تفاوتهم في هذه الأنواع الثلاثة من القوة الذهنية؛ وبحسب همتهم وجدهم وحرصهم وصدقهم في الطلب؛ ويبقى قبل ذلك كله - ومعه وبعده - توفيقُ الله تعالى.

وقد سبق الكلام في بعض هذه المسائل، ولكن أريد أن أتكلم هنا على ما يتعلق بقوة الاستنباط والتفريع واستكشاف المخفي وقيس الغائب على الشاهد.

لا يختلف اثنان من أهل المعرفة والانصاف أن من قرأ تراجم علماء العلل وجد فيهم نباهة عظيمة وذكاء يكاد يكون خارقاً للعادة؛ وكذلك يتيقن ذلك من قرأ أجوبتهم على ما يُسألون عنه من الأحاديث؛ أو طريقتهم في تعليلها والحكم عليها بما تستحقه من النعوت؛ ومن أراد الوقوف على طرف من ذلك – من المتأهلين لفهم كلامهم ولو في الجملة – فليطالع (العلل لابن أبي حاتم) و (العلل ومعرفة الرجال) للإمام أحمد ودفاع ابن حجر عن منهج علامة العلل الإمام البخاري فيما كتبه – أعني ابن حجر – في (فتح الباري) ومقدمته (هدي الساري) من توجيهات لتصرفات البخاري في إيراده أحاديث أعلها بعض العلماء أو ذكروا أن غيرها، مما لم يخرجه، أصح منها، أو في تركه إخراج بعض الرواة أو الأحاديث التي يظهر أنها على شرطه؛ وكذلك بقية إشارات البخاري وتنبيهاته واختياراته وسائر مسالكه في كتابه (الصحيح) ومن ذلك طريقته في تبويبه وترتيبه واختصارِه وتهذيبِه.

ثم إن قوة الاستقراء وسرعته وصحته تأتي من قوة الحفظ وكثرة مدارسة المحفوظ والحرص على ترتيبه في الذهن بطريقة يسهل معها استحضار الحافظ لما يريد استحضاره عندما يريد؛ ولقد كان لعلماء العلل من ذلك النصيبُ الأوفر.

وعلى فرض تساوي رجلين من أهل العلم في قوة الحفظ وسعة المحفوظ، وفي قوة الاستقراء وصحته، فإن لنا أن نتصور أن بينهما فرقاً ما في قوة الاستنباط وسرعته وجودته وصحته فإن هذه المعاني الأربعة ونحوها إنما تستمد من قوة الذكاء وسرعة البديهة وكمال الحرص وحسن التصور للمسائل وصحة أصولها وقواعدها ومتانة تلك الأصول والقواعد وكثرة تفصيلها وتحليلها، وسرعة استحضار تلك القواعد وتلك التفاصيل، أعني القواعد والضوابط الفرعية فضلاً عن الأمهات؛ والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً لا ينحصر.

وهؤلاء العلماء المبرزون في معرفة الأحاديث وعللها كان أمرهم في هذه المسائل عجباً؛ فراجع تراجمهم في كتاب من كتب تواريخ المحدثين غير المختصرة، وخذ مثالاً على ذلك (تذكرة الحفاظ) للحافظ الذهبي؛ لتقف على بعض ما وَصف المحدثون والمؤرخون به هذه الطائفة من أهل العلم بالحديث، أعني الطائفة الأولى، طائفة التفصيل والتعليل؛ فهل تجد في الطائفة الثانية كبير أحد ممن يدانيهم في ذلك؛ اللهم إلا عالماً تخاله أنت من الثانية وهو في الحقيقة من الأولى أو هو إليها أقرب.

******

انتهى الكلام على هذا الفرق؛ وبه تنتهي المقالة.

فهذا ما أردت أن أكتبه في هذا الباب، وإنما أردت به التنبيه على بعض ما قد يخفى، على بعض القراء، من جوانب الموضوع؛ وأعتذر عن طرحي للموضوع بهذه الطريقة الخالية من الاستقراء والتمثيل والتدليل؛ حتى لقد كاد الموضوع أن يظهر بثوب عقلي محض وأن يكون مكتوباً بطريقة بعيدة عن طريقة أهل الحديث ولا سيما طريقة علماء العلل والتفصيل؛ وعذري أني أردت عرض الموضوع بطريقة مختصرة وجيزة، وطريقة متمشية – قدر الإمكان – مع مقاصد حصر المسائل وضبطها وتأصيلها لتكون أقرب إلى أفهام المبتدئين في هذا الموضوع: موضوع الفرق بين المنهجين؛ ولا سيما أني آثرت أن أستغني بما رأيته في هذا الملتقى المبارك من جملة طيبة من المباحث المفصلة في هذا الموضوع منها ما كتبه الأخ هشام الحلاف ومنها ما جمعه بعض المشرفين الأفاضل من مقالات للعلماء والباحثين في هذا الباب؛ وكذلك كتب وبحوث الدكتور حمزة المليباري والدكتور إبراهيم اللاحم والدكتور حاتم العوني وغيرهم من المحققين الأفاضل؛ فجزى الله الجميع خيراً؛ وأستغفر الله مما لعله قد كان مما لا يحسن أن يكون، من دخول مني فيما لا قِبَل لي به ولا طاقة لي عليه، وأستغفر الله من زلة القدم وكبوة القلم إنه هو الغفور الرحيم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير