تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كم هو مؤلم أن تكون كثير من كليات الشريعة والتي من المفترض أن يكون تخصصها الدقيق هو الفقه الإسلامي لا تزود طلابها بمنهج مستقل للمعاملات المالية المعاصرة، فيصطدم الطالب غير المؤهل بنظم الحياة الاقتصادية المعقدة غير قادر على الربط بين النماذج التراثية التي تعلمها والصيغ الحديثة التي يواجهها إلاّ من خلال جهود شخصية خارج البرنامج الرسمي، كثيراً ما تكون متعثرة وغير منظمة.

وإذا اتفقنا أن أزمة الهدر الفقهي لا تعود إلى عامل واحد بل ترتبط بشبكة من العوامل الاجتماعية والسياسية والمعرفية، فإنه لا شك أن من أهم المشكلات التي ساهمت في تكريس أزمة الهدر الفقهي مشكلة (تكلف المغايرة) النابعة من القلق غير الطبيعي من توافق بعض الأحكام الشرعية مع صيغ الاقتصاد الغربي؛ فبدلاً من تركيز الجهد الفقهي في تحليل الخيارات الشرعية الممكنة والمتاحة في ضوء واقعنا ونسيجنا الفقهي الخاص، ينجرف كثير من الباحثين في تصوير الفقه الإسلامي للبرهنة على وجود (اقتصاد إسلامي) والواقع أنه ليس من معايير الحقائق الشرعية تناقضها مع الخبرة البشرية، بل على العكس من ذلك فإن من القرائن الدالة على رجحان الاجتهاد الفقهي تأييده واعتضاده بنتائج الخبرة البشرية.

ومن جانب آخر فإن عدم قدرة الفقهاء المعاصرين على إنشاء قاعدة بيانات فقهية كان أحد أهم مصادر الهدر الفقهي؛ إذ افتقد البحث الفقهي القنوات الخاصة التي تضمن تدفق النتائج الفقهية إلى أوعية منظمة بما يمكنها من تحقيق عنصر التراكم، وانعكاساً لهذا الغياب تستمر أزمة تكرار الجهود والدوران في حلقة مفرغة بما يحرم فقه المعاملات المالية من أحد أهم شروط نمو المعرفة.

كما يعاني الفقيه اليوم من غياب الإمكانيات التي تتيح له التعرف على الدراسات السابقة على الإشكالية محل اهتمامه، وكم هو محزن حين يبذل الفقيه جهداً في استيعاب الدراسات الفقهية في الموضوع محل اهتمامه ثم يتفاجأ بأنها جميعاً أعادت بحث الموضوع من خط البداية الأول، ولم يحاول أحد منها أن يواصل شوط البحث من حيث توقف الآخرون. يا ترى كيف سيكون حال الخبرة الفقهية لو أُتيح لنتائج الباحث الأول أن يناقشها، ويعمقها الباحث الثاني، وهكذا دواليك؟

كما أن من أهم مصادر أزمة الهدر الفقهي استنفاد جهود المجامع المتخصصة في دراسة التطبيقات الجزئية الصغيرة عبر التعسف في تعليب المعاملات المستجدة داخل الأوعية الفقهية التقليدية، وقسرها على تقمّص أشكال العقود التراثية فتخرج كثير من البحوث بصورة كسيحة تشي بحجم التكلف الهش، في مقابل إهمال بناء (منظومة القواعد المرجعية) الحاكمة لهذا العلم.

إن المجامع المتخصصة بحاجة –أكثر من أي وقت مضى- إلى أن تبلور للشريحة المستهدفة من مصرفيين ومستثمرين ونحوهم دليل إجراءات منظم، لا ينجرف في ملاحقة الجزئيات وخلافياتها، بل يكرس بشكل أساسي لتنظيم (معايير المعاملات الشرعية) بحيث يحتوي هذا الدليل القياسي على أسس مفاتيح البطلان وقواعد تنظيم الحقوق والالتزامات والمبادئ الأساسية للآثار العقدية، وبمعنى آخر الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية: ما موانع صحة المعاملة؟ وما هي حقوقك؟ وما هي واجباتك؟ دون إغراق في تفصيلات الخلاف الفقهي بحيث يتمكن الفرد غير المتخصص من استيعاب القواعد الفقهية العامة التي تمنحه الاطمئنان الشرعي في إدارة استثماراته الشخصية ومشاريعه الخاصة، ويكون اعتماد هذا الدليل من المجامع المتخصصة مادة متاحة لبرامج التدريب الشرعي.

ويعود جزء من الهشاشة الفقهية في بعض المعالجات الفقهية المعاصرة المطروحة اليوم في القنوات الفضائية والمجلات الالكترونية إلى إشكالية معرفية في قلب منهج الاستدلال الفقهي، حيث يفتي كثير من المتصدّرين للفتيا في المسائل المعروضة عليهم بناء على مفاهيم إجمالية مطورة استقرت في أذهانهم حول القواعد العامة للمعاملات، كقاعدة الربا أو قاعدة الغرر أو قاعدة الضمان ونحوها، وهذه المفاهيم الإجمالية مأخوذة من الفهم المدرسي المباشر للنصوص الشرعية العامة دون استيعاب تحليلي لتصرفات الشارع التطبيقية في التعامل مع هذه القواعد العامة، ودون استخلاص لكافة القرائن العملية من مجمل السياق التشريعي في عصر النبوة، كما يقول الإمام ابن تيمية: "ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير