لكن يبدو أنَّ الأشاعرة يفرقون بين التعليل في باب التوحيد والتعليل في الفقه فينفون التعليل في أفعال الله لكن يثبتونه في أحكامه ولذا قال ابن السبكي: (المشتهر عن المتكلمين أنَّ أحكام الله تعالى لا تعلل، واشتهر عن الفقهاء التعليل)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا خاضوا في الشرع احتاجوا أن يسلكوا مسالك أئمة الدين في إثبات محاسن الشريعة، وما فيها من الأمر بمصالح العباد، وما ينفعهم من النهي عن مفاسدهم وما يضرهم .. )
وقال أيضا: (وأمَّا تعليل أفعال الله وأحكامه بالحكمة ففيه قولان مشهوران، والغالب عليهم عند الكلام في الفقه وغيره التعليل، وأما في الأصول فمنهم من يصرح بالتعليل ومنهم من يأباه)
القول الثاني: أن أحكام الله تبارك وتعالى وأفعاله معللة بالحكم العظيمة، والغايات المطلوبة، والمقاصد المحبوبة التي فيها صلاح العباد في المعاش والمعاد، وهذا القول هو قول أهل السنة والجماعة والمعتزلة والكراميَّة والمرجئة وأكثر الفقهاء وكثير من الفلاسفة.
ثانيا: أدلة الأقوال في المسألة:
أ / أدلة المنكرين للتعليل:
1 – استدلَّ ابن حزم_ رحمه الله _ لإنكار التعليل بقوله تعالى: ? لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ?.
قال ابن حزم في بيان وجه الاستدلال: (فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه، وأنّ أفعاله لا يجزيء فيها لمَ؟، وإذا لم يُحِلَّ لنا أن نسأله عن شيءٍ من أحكامه تعالى وأفعاله لمَ كان هذا؟ فقد بطلت الأسباب جملة، وسقطت العلل البتة، إلا ما نصَّ الله تعالى عليه أنَّه فعل أمراً كذا لأجل كذا، وهذا أيضاً مما يسأل عنه، فلا يحلُّ لأحد أن يقول:لمَ كان هذا السبب لهذا الحكم، ولم يكن لغيره؟ ولا أن يقول:لمَ جعل هذا الشيء سبباً دون أن يكون غيره سبباً أيضاً؟؛ لأنَّ من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز وجل، وألحد في الدين وخالف قوله تعالى: ? لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ? فمن سأل عما يفعل فهو فاسق، وجب أن تكون العلة كلُّها منفية عن الله تعالى ضرورة)
وقد أجاب ابن القيم _ رحمه الله _ عن هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه لا يسأل عما يفعل لكمال علمه وحكمته لا لعدم ذلك.
الوجه الثاني: أن سياق الآية في معنى آخر، وهو إبطال إلهية من سواه، وإثبات الألوهية له وحده؛ فإنه سبحانه قال: ? أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسئل عما يفعل وهم يسألون ?
وقال في موضعٍ آخر: (فلم تكن الآية مسوقةً لبيان أنَّه لايفعل بحكمة ولا لغاية محمودة مطلوبة بالفعل، وأنَّه يفعل ما يفعله بلا حكمة ولا سبب ولا غاية، بل الآية دلَّت على نقيض ذلك، وأنَّه لا يسأل عما يفعله لكمال حكمته وحمده، وأنَّ أفعاله صادرة عن تمام الحكمة والرحمة والمصلحة، فكمال علمه وحكمته وربوبيته ينافي اعتراض المعترضين عليه وسؤال السائلين له، وهم حملوا الآية على أنَّه لا يسأل عما يفعله لقهره وسلطانه، ومعلوم أنَّ هذا ليس بمدح من كل وجه، وإن تضمَّن مدحاً من جهة القدرة والسلطان، وإنَّما المدح التام أن يتضمَّن ذلك حكمته وحمده ووقوع أفعاله على أتمِّ المصالح، ومطابقته للحكمة والغايات المحمودة ... )
2 – قالوا: إنَّه لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها؛ فإنَّه إمَّا أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أنَّ وجودها أولى به، فيكون مستكملاً بها فيكون قبلها ناقصاً.
أجاب ابن تيمية _ رحمه الله _ عن هذا الدليل من خمسة أوجه:
أحدها: أن هذا منقوضٌ بنفس ما يفعله من المفعولات فما كان جواباً في المفعولات كان جواباً عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلاً إلا مستكملاً بفعله.
الثاني: أنهم قالوا: كماله أن يكون لا يزال قادراً على الفعل بحكمة فلو قدر كونه غير قادر على ذلك لكان ناقصاً.
الثالث: قول القائل: إنه مستكمل بغيره باطل؛ فإنَّ ذلك إنَّما حصل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك فلم يكن في ذلك محتاجاً إلى غيره، وإذا قيل: كَمُل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره كان كما لو قيل: كمل بصفاته أو كمل بذاته.
¥