وقد ظهر ذلك التوجه عند كثير من العلماء من خلال كتبهم وترجيحاتهم، ولا غرابة في ذلك؛ لأنهم يتبعون في هذا سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري بإسناده عن أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت:
" ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أَمْريْن إلا أخذَ أَيْسَرَهُمَا ما لم يَكُنْ إثماً فَإنْ كان إِثْماً كان أَبْعَدَ الناس منه ... " (2)
ــــــــــــــ
1 - الأشقر، الواضح في أصول الفقه:144، يعقوب الباحسين، قاعدة المشقة تجلب التيسر:318.
2 - يعقوب الباحسين، قاعدة المشقة تجلب التيسر:405.
3 - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم:3/ 1306،وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته:4/ 1813.
* وسأذكر ـ بإذن الله تعالى ـ بعض الصور التي اتضح فيها التزام العلماء بالأخذ بقاعدة المشقة تجلب التيسير فيما يخص الترجيح:
أ- الأخذ بالحكم الأخف:
وذلك سواء كان بين المذاهب أو الاحتمالات المتعارضة أماراتها، واحتج العلماء لذلك بالمنقول والمعقول، أما المنقول فالآيات والأحاديث الدالة على رفع الحرج،وقد تقدم الإشارة لبعضها، أما المعقول فقولهم:
" إنه تعالى كريم غني والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير" (1)، وواضح من العبارة السابقة أن هذا المنهج يتبع عندهم إذا ما كان الحكم يدور حول حق الله تعالى وليس حق العباد.
ب- الأخذ بالعلة التي توجب حكما أخف:
واختار بعض العلماء ترجيح العلل التي توجب حكما أخف على العلل التي توجب حكما أشد، وذلك في حال استوت العلتين في القوة، ولم يكن بينهما من هذه الجهة من فروق إلا في الشدة واليسر؛ وهذا لتضافر الأدلة الدالة على اعتبار ذات التيسير. (2)
ـــــــــــــــ
1 - الرازي، المحصول:6/ 159 - 160،الزركشي، البحر المحيط:4/ 599،يعقوب الباحسين، قاعدة المشقة تجلب التيسير:406.
2 - الغزالي، المستصفى:1/ 382،يعقوب الباحسين، قاعدة المشقة تجلب التيسير:411.
ـ[طالب العلم عبدالله]ــــــــ[05 - 01 - 07, 08:55 م]ـ
المطلب الأول: مكانة قاعدة المشقة تجلب التيسير بين القوانين الوضعية:
يظهر بوضوح تأثير قاعدة المشقة تجلب التيسير على القوانين الوضعية عند تأملنا لأثر نظرية الضرورة على تلك القوانين، وقد ذكر فيما سبق أن نظرية الضرورة تنطوي تحت مظلة قاعدة المشقة تجلب التيسير، ولابد أن يشار إلى أن جوهر نظرية الضرورة يقوم على افتراض قيام خطر جسيم وحال، يهدد كيان الدولة وأنظمتها، بحيث لاتجدي القواعد القانونية التي وضعت للظروف العادية في مواجهته، فتجد الدولة نفسها مضطرة لمخالفة هذه القوانين العادية من أجل مواجهة هذا الخطر لداهم الذي يهدد كيان الدولة، ويعني ذلك أن نظرية الضرورة تقوم على التعارض بين أمرين:
الأول: المحافظة عل كيان الدولة وسلامتها من ناحية.
والثاني: وجوب احترام قواعد القانون من ناحية أخرى.
*ومن أشهر الدول التي تبنت هذه النظرية في قوانينها:
1 - دولة فرنسا:
فقد أقر مجلس الدولة الفرنسي نظرية الضرورة في العديد من أحكامه، وقام فقهاء القانون الفرنسي بتهذيب نظرية الضرورة وقيدوها بضوابط معينة؛ لكي تستعمل استعمالا صحيحا ومعقولا دون تعسف. (1)
ـــــــــــــــ
1 - وهبة الزحيلي، نظرية الضرورة الشرعية:309،موقع مجلس الأمة الكويتي على الشبكة العنكبوتية، نظرية الضرورة في القانون والمراسيم بقوانين: www.majlesalommah.net
2- دولة ألمانيا:
أما في ألمانيا فقد قرر الفقه الألماني أن نظرية الضرورة تعتبر كحق الدفاع الشرعي، ويقصدون بذلك أنها نظرية قانونية تباح بموجبها إجراءات غير مشروعة حسب النصوص القانونية على أساس حق الدولة في السيادة، فيمكن للدولة الخروج على القانون في أحوال الضرورة، ولرئيس الدولة أخذا بحق الضرورة أن يعطل الدستور والقانون كلما وجد ذلك ضروريا للدفاع عن أمن الدولة وصيانة نظامها العام؛ وبذلك حول الفقهاء الألمان نظرية الضرورة إلى نظرية ديكتاتورية سلطوية كما يرى أهل القانون لأنهم لم يضعوها ضمن ضوابط معينة كالفقهاء الفرنسيين. (1)
*وتعتبر نظرية الضرورة أيضا نظرية شاملة عامة لكل فروع القانون، حيث أن لها تطبيقاتها في كل تلك الفروع،وفيما يلي بيان ذلك:
1 - القانون الجزائي:
فيلاحظ أن لنظرية الضرورة تطبيقاتها في القانون الجزائي، ففي حالة الدفاع الشرعي لا يسأل جزائيا من ارتكب فعلا دفعته لإرتكابه ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس أو العرض أو المال.
ــــــــــــــ
1 - وهبة الزحيلي، نظرية الضرورة الشرعية:309،موقع مجلس الأمة الكويتي على الشبكة العنكبوتية، نظرية الضرورة في القانون والمراسيم بقوانين: www.majlesalommah.net
2- القانون الإداري:
وتطبق نظرية الضرورة أيضا في القانون الإداري، حيث لم يعتبر مجلس الدولة الفرنسي الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي خطأ من جانب الإدارة، إذا كان سوف يترتب عل تنفيذه إخلال جسيم بالأمن العام، وتقرر هذه النظرية للإدارة الحق في القيام بالإجراءات المستعجلة اللازمة لدفع كل خطر يهدد الأمن أو الصحة العامة دون تقيد بالقوانين واللوائح، بل وتسمح هذه النظرية للمتعاقد مع الإدارة حقوقا تسمح بإعادة التوازن المالي للعقد إذا طرأت ظروف استثنائية أثرت على هذا التوازن. (1)
¥