فإذا كان أئمة الأحناف أنفسهم ينصون عند ذكر المدارس الأصولية على أن مصطلح الفقهاء لا يختص بهم دون غيرهم، من أين أتى اختصاصهم به؟!
وقد نص على ذلك أيضا عدد كثير من الأصوليين غير الأحناف، انظر على سبيل المثال:
قول الباقلاني: (وبه قال كثير من المتكلمين منهم الجبائي وابنه، وقاله كثير من الفقهاء من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وإليه ذهب عيسى بن أبان).
[التقريب والإرشاد (3/ 66)]
وقال أيضا: (اختلف الناس في هذا الباب: فقال الجمهور من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة منهم الكرخي، وعيسى بن أبان، وجميع أهل الظاهر، وقوم من المتكلمين .. )
[التقريب والإرشاد (2/ 339)]
فالباقلاني ينص بعد ذكر المتكلمين، بأن الفقهاء هم أتباع أئمة المذاهب الأربعة من الأصوليين، ليس للأحناف اختصاص بذلك، وهذه العبارة كثيرة جدا في كلام الباقلاني.
قال الجويني: (ومن عجيب المذاهب ما صار إليه بعض الفقهاء المنتمين إلى الأصول). [التلخيص في أصول الفقه (1/ 384 - 385]
وقال أيضًا: (فأما القائلون بالعموم، فقد افترقوا في ذلك، فذهب كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة رحمهم الله، وطائفة من المتكلمين منهم الجبائي وابنه إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصصت صارت مجملة، لا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات، وإليه مال عيسى بن أبان، وذهب طائفة من الفقهاء منهم الكرخي وغيره ... ) [التلخيص في أصول الفقه (2/ 39 - 40)]
وقال أيضًا: (اعلم - وفقك الله - أن هذا مما اختلف فيه الفقهاء، والمتكلمون، فما ذهب إليه الجمهور من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأهل الظاهر، وطائفة من المتكلمين أن النهي عن الشيء يدل على فساده).
[التلخيص في أصول الفقه (1/ 480 - 481)]
قوله: "بعض الفقهاء المنتمين إلى الأصول" يبيّنه قوله: "فذهب كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة رحمهم الله"
فالأحناف ليس لهم اختصاص بهذا اللقب دون غيرهم لا في الأصول ولا في الفروع.
وقال السمعاني: (اعلم أن الانعكاس ليس بشرط لصحة العلة في قول أكثر الأصحاب، وهو قول جمهور من انتمى إلى الأصول من الفقهاء، وهو أيضا قول بعض المتكلمين).
[قواطع الأدلة في الأصول (2/ 162)]
هل الأحناف هم فقط جمهور من انتمى إلى الأصول؟!
فالسمعاني وغيره من أعيان علماء الأصول من أئمة المذاهب – المالكية، والشافعية، والحنابلة – ينتمون إلى هذه المدرسة، وهم ليسوا بأحناف.
قال السمعاني في مقدمة القواطع: (فاستخرت الله تعالى عند ذلك، وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه، أسلك فيه محض طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد، ولا ميل).
فكيف يُصنف السمعاني بعد هذا الكلام إلى مدرسة المتكلمين؟! ولا سيما بعدما شدد في النكير عليهم، وبالغ في لوم من تأثر بهم من الفقهاء، ثم صرح بعد ذلك بمخالفتهم فقال عن كتابه: "أسلك فيه محض طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد، ولا ميل" فبعد كل هذا يقال: السمعاني كتب على طريقة المتكلمين!
الطريق الثاني: من جهة التطبيق:
وهذا بيّن لكل من نظر فيه بعين الاعتبار، فكتب الأصول المتقدمة ترد على كل من خصّ الأحناف دون غيرهم بمدرسة الفقهاء، وحتى لا أطيل عليك أضع بين يديك بعض النصوص من كتب الأصول لتتأمل فيها.
اقرأ على سبيل المثال في كتاب "العدة" لأبي يعلى، قوله رحمه الله:
(مسألة: الأمر المطلق يقتضي الوجوب، إذا ورد لفظ الأمر متعرياً عن القرائن اقتضى وجوب المأمور به.
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في مواضع:
فقال في رواية أبي الحارث: إذا ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب وقال أيضاً رحمه في رواية مهنا – وقد ذكر قول مالك في الكلب يلغ في الإناء لا بأس به- فقال: ((ما أقبح هذا من قولة! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغسل سؤر الكلب سبع مرات).
وكذلك نقل صالح عن رضي الله عنه فيمن صلى خلف الصف وحده: يعيد الصلاة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً صلى خلف الصف أن يعيد).
[العدة في أصول الفقه للقاضي أبو يعلى (1/ 224 - 226)].
وهذا النمط كثير جدا في كلام أبي يعلى، وهو مخالف تماما لطريقة المتكلمين، فكيف يكون منهم؟!
وعلى هذه الطريقة ألف بعض الأصوليين نسبوا إلى طريقة المتكلمين، وهم ليسوا كذلك، منهم على سبيل المثال:
- إمام هذا العلم: الشافعي – رحمه الله-.
¥