تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ابتداء أحب أن أقول لك: إن كلام شيخ الإسلام هذا معروف مشهور عنه، ولو تأملتَه جيدا ثم طبقته على صنيع شيخ الإسلام العملي في فتاواه لظهر لك أنه يتكلم على مسائل بخلاف التي معنا، فإننا متفقون على أنه لا يصح أن يقال: إن الإجماع نسخ النص الشرعي، وإنما الإجماع يُبين أن هذا النص الذي ظاهره (كذا وكذا) ليس المراد به هذا الـ (كذا وكذا)، وابن تيمية لم يعترض في كلامه على ذلك، وإنما تعرض لمن يدعي نسخ النص بالإجماع، وهذا لا يُدعى إلا لو كانت دلالة النص واضحة لا تحتمل الخلاف، ومسألتنا ليست كذلك.

لكن محل الخلاف نص دلالته ظنية على أمر ما والجميع متفق - حتى لا تقول فهمي أنا - على أن هذا النص يدل على ذلك الأمر ولو ظنا والمعلوم أن الظن القائم عن دليل حجة شرعية ملزمة فهل هذا الظن المستفاد - ليس من فهمي أنا وحدي بل من فهم جميع الناس أن هذا النص يدل على ذلك ظنا - من ذلك النص أضعف من أقوال بعض العلماء الذين وصلت إلينا أقوالهم بصرف النص عن ظاهره.

كلامك هذا جميل جدا جدا، وجزاك الله خيرا على الإشارة إلى هذا الكلام.

وأقول لك: أنت تقول: إن الجميع متفقون على هذه الدلالة الظنية التي تقولها، ولكنهم مع ذلك لم يأخذوا بمقتضى الحديث، فنحن هنا عندنا إجماعان: الإجماع الأول على أن دلالة النص كذا وكذا، والإجماع الثاني على أن هذه الدلالة غير معمول بها. ففي هذه الحالة إما أن يكون أهل الإجماع الأول هم أهل الإجماع الثاني أو غيرهم، فإن كانوا هم هم فهذا غير متصور عقلا؛ أن جميع هؤلاء العلماء يعرفون دلالة النص ويوافقون عليها ومع ذلك يخالفونها عمدا بلا حجة، وهذا متواتر عن السلف كما قال الشافعي رحمه الله: (أتراني خرجت من كنيسة؟! أروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولا أقول به؟!) وغيره من أئمة السلف يقولون أيضا بذلك.

فثبت أن أهل الإجماع الأول غير أهل الإجماع الثاني قطعا، وحينئذ يجب أن يبطل أحد الإجماعين الآخر، لأنه لا يتصور أن تجمع الأمة على شيئين متضادين؛ لأن الله عز وجل لا يجمع الأمة على باطل، فإذا اجتعت الأمة على شيء ثم اجتمعت على ضده، فأحد الإجماعين ولا شك باطل، وحينئذ ننظر في كلام أهل العلم لنعرف أي الإجماعين هو المعتبر عندهم، وفي أغلب الأحيان يكون الإجماع الثاني هو المعتبر؛ لأننا حتى لو اتفقنا على أن دلالة النص كذا وكذا، فهذا لا يمنع من وجود نص آخر معارض له.

وسأضرب لك مثالا

فمن يرى وجوب التسبيح يقول حديث ابن عباس فيه الأمر بتعظيم الرب في الركوع ودلالة الأمر الوجوب فلماذا لا يقال أيضا بوجوب الاجتهاد في الدعاء في السجود وهو أيضا أمر وفي نفس الحديث وفي نفس السياق - حتى لا يقال هو فهمي وحدي-

فستجد الإجابة لأننا لم نعلم قائلا بوجوب الاجتهاد في الدعاء في السجود

فهل جميع أقوال أهل العلم وصلت إلينا حتى يخالف ذلك النص مع كون باقي النص أخذ به في وجوب التسبيح في الركوع

وإذا قيل هناك دليل صارف وليكن هو حديث المسيء في صلاته قلت يكون أيضا صارفا لعدم وجوب التسبيح في الركوع ولا فرق إذن بينهما

أحسنت بضرب مثل هذا المثال، والجواب عنه يسير جدا إن شاء الله تعالى، وذلك أن العلماء تكلموا عما يسمى بـ (دلالة الاقتران)، ولو تأملتَ المثال الذي طرحتَه لوجدت أن عمدتك فيه الاستناد إلى (دلالة الاقتران)، فأنت تقول: إما أن يكون الأمران معا للوجوب، وإما أن يكونا معا للاستحباب، وهذه الدلالة تختلف عن الاستدلال بقاعدة (الأصل في الأمر الوجوب).

فالراجح عند الأصوليين أن دلالة الاقتران ضعيفة، فهي ليست دلالة باطلة مطلقا كما هو مذهب جماعة من الأصوليين، بل هي دلالة صحيحة، ولكنها ضعيفة فلا تقدم على غيرها من الدلالات، ولذلك فالصواب في مثل هذه النصوص التي تحتوي على أوامر متعاطفة أن يكون كل منها كأنه نص على حدة، وحينئذ فلا مانع من أن يصرف بعضها عن الوجوب ولا يصرف بعضها. هذا أولا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير