وأما الزكاة فإنها لم تجب عليه لأن عطاياه لم تمكنه من أن يملك نصابها، حتى إنه عندما توفي لم يخلف لورثته شيئاً قط ما عدا سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً (14)
. كما كان حريصاً على صيام رمضان وقضاء ما فاته منه بسبب الجهاد ومقتضياته (15).
وأما بالنسبة إلى الحج فقد شغله عنه الجهاد المستمر، وكان يحب قراءة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وسماعهما، وكثيراً ما كانت تدمع عيناه في أثناء القراءة والسماع (16)، كما كان أيضاً كثير التعظيم لشعائر الدين حسن الظن بالله، كثير الاعتماد عليه (17)، عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي، يجلس للعدل كل اثنين وخميس مجلساً عاماً (18).
وأما كرمه فقد كان عظيماً يدل عليه أنه لم تجب عليه زكاة قط، وأنه لم يترك لورثته شيئاً (19). كما ضرب المثل الأعلى بشجاعته وقوة نفسه وشدة بأسه وعظيم ثباته، وكان لا بد من أن يطوف حول العدو يومياً مرة أو مرتين إذا كان قريباً منه (20).
ثم ذكر ابن شداد شدة اهتمام صلاح الدين بالجهاد، ولقد ألف له كتاباً عنه، كان كثير المطالعة له (21)، ويدلنا على ذلك ما أخبر به صلاح الدين ابن شداد، وهو:
"أنه متى ما يسر الله فتح بقية الساحل، قسمت البلاد، وأوصيت، وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتتبعهم فيها، حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت .. "، فقال له ابن شداد: إنك سور الإسلام ومنعته، فلا ينبغي أن تخاطر بنفسك، فقال له: ما أشرف الميتات؟ فقال ابن شداد: الموت في سبيل الله، فقال له: غايتي أن أموت أشرف الميتات (22).
وبعد ذلك ذكر ابن شداد طرفاً من صبره واحتسابه، ونبذاً من حلمه وعفوه ومروءته ومكارم أخلاقه وعفوه، تؤكد صفاته الآنفة الذكر وتذكرنا بسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين (23).
والقسم الثاني (24):
جعله ابن شداد في تقلبات أحوال صلاح الدين ووقائعه وفتوحاته حسب تسلسلها التاريخي، بدأه بتاريخ ذهابه (أي صلاح الدين) إلى مصر صحبة عمه أسد الدين شيركوه بأمر من نور الدين محمود نجدةً للوزير الفاطمي شاور، بعدما غلبه عدو له، اسمه ضرغام عام 558ه* (25).
ثم تابع تأريخه للأحداث حسب توالي السنين، وتحدث فيما تحدث عن قضائه على الدولة الفاطمية، وتسلمّه مصر وإعادتها إلى الخلافة العباسية عام 567ه* (26) وإقامة العدل فيها، وتعاونه المخلص مع نور الدين في رد الفرنجة عن مصر التي كادت أن تسقط في أيديهم. كما تحدث أيضاً عن فاجعة وفاة نور الدين، وما تركته من فوضى وفراغ لم يستطع ابنه الملك الصالح إسماعيل أن يملأه لصغر سنه وقلة حكمته وطمع حاشيته وجهلها (27)، وعما بذله صلاح الدين من جهد وصبر، حتى استطاع أن يملأ هذا الفراغ بتوحيده للشام ومصر، وبإعادة القوة إلى الجيوش العربية حتى استطاع أن يقلب ميزان القوة، وينتصر على الصليبيين نصراً حاسماً في معركة حطين التي حدثت في فلسطين عام 583ه*، وقد وصفها ابن شداد وصفاً دقيقاً مفصلاً، بيّن فيه سمو أخلاق صلاح الدين وجنده وشجاعتهم، وما حل بالفرنجة من خسائر وخوف على الرغم من كثرة عددهم وعددهم، ويوضح هذا كل ما كتبه ابن شداد (28)، ونكتفي بهذين النصين، وهما:
"ونصبت الخيمة، وجلس (أي صلاح الدين) فرحاً مسروراً لما أنعم الله به عليه، ثم استحضر الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط، وناول الملك جفري شربة من جلاب مثلج، فشرب منها، وكان على أشد حال من العطش، ثم ناول بعضها البرنس أرناط، فقال السلطان للترجمان، قل للملك: أنت الذي تسقيه، وإلا أنا ما سقيته. وكان على جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من ماء لمن أسره أمن، فقصد بذلك الجري على مكارم الأخلاق.
ثم أمر بمسيرهم إلى موضع عين لنزولهم فمضوا وأكلوا شيئاً ثم عاد فاستحضرهم، ولم يبق عنده أحد سوى بعض الخدم، وأقعد الملك في الدهليز، واستحضر أرناط، وواقفه على ما قال، (أي عندما قال لقافلة من مصر نزلت عنده بالأمان في حالة صلح، فغدر بهم، واستخف بالنبي (صلى الله عليه وسلم)) (29)،
وقال له: هاأنذا أستنصر لمحمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل، ثم سل عليه النمجاه (30)، وضربه به فحل كتفه، وتمم عليه من حضر .. فلما رآه الملك .. لم يشك أنه يثنّي به، فاستحضره السلطان وطيب قلبه، وقال:
¥