وَإِذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّة ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَام بِمُقْتَضَاهُ لَمْ يَزِدْهُ إِلَّا شِدَّة وَتَأْكِيدًا وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " شَهِدْت حِلْفًا فِي الْجَاهِلِيَّة مَا أُحِبّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْر النَّعَم، لَوْ دُعِيت إِلَى مِثْله فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت " فَهَذَا - وَاَللَّه أَعْلَم - هُوَ حِلْف الْمُطَيِّبِينَ، حَيْثُ تَحَالَفَتْ قُرَيْش عَلَى نَصْر الْمَظْلُوم، وَكَفّ الظَّالِم وَنَحْوه، فَهَذَا إِذَا وَقَعَ فِي الْإِسْلَام كَانَ تَأْكِيدًا لِمُوجَبِ الْإِسْلَام وَتَقْوِيَة لَهُ.
وَأَمَّا الْحِلْف الَّذِي أَبْطَلَهُ فَهُوَ تَحَالُف الْقَبَائِل: بِأَنْ يَقُوم بَعْضهَا مَعَ بَعْض وَيَعْضُدهُ وَيُحَارِب مَنْ حَارَبَهُ، وَيُسَالِم مَنْ سَالَمَهُ. فَهَذَا لَا يُعْقَد فِي الْإِسْلَام، وَمَا كَانَ مِنْهُ قَدْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّة. فَإِنَّ الْإِسْلَام يُؤَكِّدهُ وَيَشُدّهُ، إِذَا صَارَ مُوجَبه فِي الْإِسْلَام التَّنَاصُر وَالتَّعَاضُد وَالتَّسَاعُد عَلَى إِعْلَاء كَلِمَة اللَّه تَعَالَى وَجِهَاد أَعْدَائِهِ، وَتَأْلِيف الْكَلِمَة، وَجَمْع الشَّمْل.
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين ابْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه: وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحِلْف الَّذِي نَفَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هُوَ الْحِلْف وَالْإِخَاء الَّذِي عَقَدَهُ بَيْن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار، وَيُشْبِه أَنْ يَكُون أَنَس فَهِمَ مِنْ السَّائِل لَهُ: أَنَّ النَّهْي عَنْ الْحِلْف مُتَنَاوِل لِمِثْلِ مَا عَقَدَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَنَس بِحِلْفِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن أَصْحَابه فِي دَارهمْ، وَاَللَّه أَعْلَم.عون المعبود
قال ابن حجر:وتضمن جواب أنس إنكار صدر الحديث لأن فيه نفي الحلف وفيما قاله هو إثباته ويمكن الجمع بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالما ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها ومن التوارث ونحو ذلك والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد
وقد تقدم حديث بن عباس في نسخ التوارث بين المتعاقدين وذكر الداودي أنهم كانوا يورثون الحليف السدس دائما فنسخ ذلك
وقال ابن عيينة:حمل العلماء قول أنس حالف على المؤاخاة
قلت: لكن سياق عاصم عنه يقتضي أنه أراد المحالفة حقيقة إلا لما كان الجواب مطابقا وترجمة البخاري ظاهرة في المغايرة بينهما وتقدم في الهجرة إلى المدينة باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وذكر الحديثين المذكورين هنا أولا ولم يذكر حديث الحلف وتقدم ما يتعلق بالمؤاخاة المذكورة هناك. فتح الباري
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شهدت من حلف قريش إلا حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم وإني كنت نقضته) قال: والمطيبون: هاشم و أمية و زهرة و مخزوم.
صححه ابن حبان في كتابه الصحيح/وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 524)
قال أبو حاتم (بن حبان):أضمر في هذين الخبرين (من) يريد به: شهدت من حلف المطيبين لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشهد حلف المطيبين لأن حلف المطيبين كان قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وهم من المطيبين قد ذكرت الكلام على هذا الخبر بتفصيل في كتاب (التوريث والحجب).
وفي رواية: عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب ان لي حمر النعم وأني أنكثه قال الزهري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصب الإسلام حلفا الا زاده شدة ولا حلف في الإسلام وقد ألف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار. أخرجه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان والحاكم في المستدرك وغيرهم كثير
والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وقال محمد بن نصر قال بعض أهل المعرفة بالسير قوله في الحديث (حلف المطيبين) غلط إنما هو حلف الفضول لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين لأنه كان قديما قبل مولده بزمان وبهذا أعل بن عدي الحديث المذكور. تلخيص الحبير
قال القرطبي:
قال العلماء: فهذا الحلف الذى كان في الجاهلية هو الذى شده الاسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: " لا حلف في الاسلام ".
والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى: " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (1) ".
وفى الصحيح (من قوله " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: " تأخذ على يديه - في رواية: تمنعه من الظلم - فإن ذلك نصره ". تفسير القرطبي
¥