تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لم يحرزه أحد من معاصريه في عاصمة بني عثمان.

جريدة الجوائب: وفي سنة 1861 م الموافقة لسنة 1278 هـ أنشأ جريدة الجوائب الشهيرة في الآستانة نفسها، وأجاد في إنشائها كل الإجادة وأبدع كل الإبداع، فأقبل الناس على مطالعتها وجابت أخبارها وفوائدها الممالك والأقطار من مصر إلى المغرب إلى الشام إلى العراق وبقية البلاد العربية برمتها إلى بلاد فارس و الهند. وكانت مرجعاً لأهل الطبقات الراقية في كل هذه الأقطار مما لم تفز به جريدة سيارة في ذلك الحين حتى في الأقطار الأوربية نفسها. وكانت كبريات الصحف في باريس ولوندرا تستقي منها أنباء الشرق مستشهدة في ما تكتبه عن السياسة الشرقية بأقوال محررها وتلقبه بالسياسي الشهير والإخباري الذائع الصيت. ولا غرو فهو بلا نزاع بكر الصحافيين الشرقيين بل هو أميرهم ونقيبهم وقدوتهم.

ثم حال تراكم الأعمال عليه ووفرة المهام الملقاة على عاتقه دون تمكنه من مواصلة العمل منفرداً في تحرير الجوائب، وهو عبء ثقيل يعجز دونه من كان في مقام فارس يحدق به طلاب الحاجات وتزدحم في بابه مناكب أهل العلم و المعرفة. فعهد في تحريرها إلى نجله سليم فاقتفى أثره في إنشائها وجال فيها جولات صادقة في السياسة والاجتماع والأدب كان لها صدى عظيم في أندية العلم و السياسة، حتى صدق فيه القول المأثور: ((إن ذاك الشبل من ذاك الأسد)). وواصل سليم العمل في تحرير الجوائب إلى أن كانت سنة 1884 فقضت الظروف السياسية التي نشأت على أثر احتلال الإنجليز لمصر بتعطيلها لأنها كانت شوكة في جنب كل طاغ جبار، يوم كانت الأفكار هاجعة و القرائح جامدة و الأقلام ساكنة ساكتة غارقة في سبات عميق، والإنشاء يرفل في الأطمار البالية، فوشاه فارس المبتكرات و المنحوتات ورصعه بالأوضاع المحيطة بأعراض المستحدثات. على أن هذه الصدمة لم تكن لتوهن عزيمة هذا الفارس المغوار، ولا لتثبط همة نجله، فشدد هذا الرحال إلى تونس وهي معقلهما الحصين وهناك استأنف إصدار الجوائب وإرسالها إلى الممالك العثمانية، وفي جملتها مصر حيث كان دخولها محظوراً بحكم سياسة الاحتلال إلى أن حالت عوامل قاهرة دون مواصلة إصدارها (3). ثم أنشأ سليم جريدة القاهرة الحرة بالاشتراك مع الأستاذ يوسف بك آصاف المحامي الذي هو اليوم صاحب جريدة المحاكم.

وظل فارس عاكفاً على التحرير و التأليف إلى آخر مرحلة من حياته غير حافل بوقر الشيخوخة ووطأة الأيام. ولم يكف عن الكتابة و المطالعة إلا في سنة 1884 حيث اعتراه ضعف في بصره اضطر إلى اعتزال العمل و الجهاد.

رجوعه إلى مصر: وفي شتاء سنة 1886 عاد مصحوباً بعائلته إلى مصر، التي شهدت بزوغ شمس عبقريته ونبوغه، وهو سيخ جليل أحنت الأيام ظهره ولكنها لم تحن هامته ولم تفلّ من غرار عزيمته ومضاء ذهنه. وظل كما عهده جلاسه في وادي النيل رقيق الجانب، لطيف المعشر، أبي النفس، لين العريكة، طلق المحيا، محباً للخير وفاعليه، يكيل المعروف بغير حساب، لا يتقد إليه طالب حاجة ويعود خائباً، فصيح اللسان، ميالاً إلى المجون، مولعاً بالنكبة البيانية.

وفي مصر رحب به العلماء ورجال الأدب و الفضل أحسن ترحيب. وقد أطلعنا على قصيدة نظمها حضرة العالم حبيب غزالة بك تحية له وترحيباً به في جملة ما جاء فيها قوله:

قل للذي قد رام حصر كماله هذي الجوائب أنبأت بعلائه

مصباح آداب اللغات بأسرها تجلى لياليها بسر ضيائه

وزاره الوزراء و الكبراء وحظى بالمثول بين يدي توفيق باشا الخديو الأسبق فلقى منه كل رعاية وأثنى عليه ذاكراً جهاده في سبيل العلوم و المعارف وبلاءه في سبيل اللغة و الشرق. وكان قد وطن النفس على العودة إلى لبنان ليختم فيه أيامه متفيئاً ظلال الأرز ولكن الظروف قضت عليه بالنكوص و العودة إلى الآستانة في ربيع تلك السنة نفسها.

أما نجله سليم فقصد إلى أوربا. وأنهى فارس جهاده الطويل في سبيل اللغة بإنجاز كتابه النفيس: منتهى العجب في خصائص لغة العرب فأبى نكود الطالع إلا أن يحرم الناطقين بالضاد من درره العالية فالتهمته ألسنة اللهيب مع ما التهمت من مخطوطاته وكتبه النفيسة التي كانت في مكتبته يوم اضطرمت النار في قصره بالآستانة. ولو أن صناديق المجوهرات وهدايا الملوك و السلاطين و الأمراء و العظماء كانت سريعة الالتهاب ما ظفروا بإنقاذها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير