وتلك كانت حاله في خلق الألفاظ للمسميات الحديثة، فقد جاء الصحافة في صباها، فكان أبا الراقية منها لغة وسياسة. اعترضته مشاق كثيرة عند وضع الكلمات للفارياق وكشف المخبا و الجوائب،ولكنها لم تعوقه، فسمى الداليجانس،حافلة المجد. و الفكونات، الرتل، والباخرة سفينة النار، و الفنون الجميلة، الصنائع الظريفة، وبوليس التحري الثقاف. وكان يتألم كثيراً من هذا العناء المخلوط ببرد أوربا وسطمبول، فقال فيه شعراً:
ومن فاته التعريب لم يدر ما العنا ولم يصل نار الحرب إلا المحارب
أرى ألف معنى ما له من مجانس لدينا، وألف ما له ما يناسب
فيا ليت قومي يعلمون بإنني على نكد التعريب جدي ذاهب
اسكت يا شيخ، لقد علموا، ولكن أنت تنفخ في رماد.
لقد كتب في تآليفه كل ما هو مبتكر حقاً، فخلق أدباً حياً لا أدباً ذابلاً، إن تحرك ناس كلعب الأولاد.ويا ليه كتب قصة بمعناها المعروف اليوم، إذن لكان لنا أروع القصص. وإن صح حشر سيرة الحياة بين القصص، فالفارياق قصة عالمية رائعة. فما أروع وصف تلك الغربة التي جلت ذاك الصقيل الفرد.
حدثنا رواة الأخبار عن المعري القفلة، ولكن الدليل على ذاكرته العجيبة لم يقم، أما إمامنا ففي فارياقه وجميع آثاره ألف دليل على ذلك الدماغ الغريب، فهو المؤلف العجيب حتى في كتبه اللغوية، وكل من ألفوا قبله وبعده نساخ، فمن شاء أن يؤلف في اللغة بعد أحمد فليستح، وليعذرني أبو عثمان المازني إن استعرت كلمته هذه، فهنا محلها أيضاً.
الأديب و الناقد:
الشدياق رجل قوي الباصرة، ليس في جرابه رغيف من خبز الرومنتيكية، فهو الجاحظ سواء بسواء، ولولا تشكيه البرد وتبرمه بالثلج لقلت إنه لم يحسّ الطبيعة قط، اكتفى بالمرأة عن كل ما خلق وما لم يخلق، فكل الصيد في جوف الفرا. ولولا كرهه طعام الإنجليز وحنينه إلى طعامنا لقلت إن الرجل يعيش على الانتقاد، فلم تنج ناحية من نواحي الاجتماع من جراد نقده الزحاف، لم يدع زاوية من زوايا الكون إلا ولجها، ينتقد الدنيا جماعات وأفراداً وحكومات وبلداناً، فقل إذا شئت:
لم يسلم من لسانه أحد. أما نقده الأدبي، ففي الفارياق، وكشف المخبا، وسلوان الشجي، وفصوله المجموعة سبعة أجزاء كثير منه. انتقد أساليب الكتاب و الشعراء وتفكيرهم وتعبيرهم، فكأنه أقام نفسه معلماً أو مدعياً عاماً في محكمة الأدب.
وقد اطلعت على رسالة بخطه نقد فيها كتاب أخيه طنوس. كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان فما حاباه ولا تغاضى عن هفواته ونعى عليه تذبذبه.
أذكر أنني قرأت كلمة لأمين الريحاني نقد بها ((غطارفة البيان)) كما سماهم، وإذا بي أجدها بمعناها في الفارياق، لست أعني أن الريحاني ناقل، بل قلت هذا لأدلك عل رجل نظر أمس كما ننظر نحن اليوم، إلى هؤلاء الفحول المقلدين، وما ننكره نحن الآن عليهم أنكره هو قبلنا في الفارياق، وكشف المخبا، وأشبعهم سخراً وهزءاً. ولكن أولئك كهؤلاء لا يردعهم شيء حتى الصفع فخصلة البدن لا يغيرها إلا الكفن، ولو كان ربنا يسمع شعراً لنظموا له عقوداً زبرجدية يعلقها في شماريخ عرشه.
ولو قرأت ما كتبه في الواسطة عن الزانية التي تضع صورة العذراء بالمقلوب حين تفحش، لتذكرت، إن كنت قرأت ((البعث))، وصف هذه الحالة الذي كتبه فيلسوف الروس العظيم، وأدركت أنه لم يفت أديبنا العظيم فسبق إليه.
والأستاذ جريء على استعمال القياس، فحلحل مكابس اللغويين. لقد جمع ونسب كما قرر مجمع مصر الملكي، وهو في عمله هذا واثق من نفسه، يؤدي العبارة على حقها ولا احتكاك عنده، فكأنه يقطع من مقلع.
والخلاصة أن الفرق بين أحمد ومعاصريه كالفرق بين رافائيل وبين من ينقلون صوره عن معجم لاروس وغيره.
المتهكم الساخر:
¥