تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال (فإن العرب كثيراً ما تفرد اسم المكان بمعنىّ مخصوص من معاني الفعل المتعددة وذلك لكثرة استعمالها لهُ. فمن ذلك لفظة ((المحافل)) فإنها لا تُستعمل عند الإطلاق إلا بمعنى المجالس التي يحفل فيها القوم أي يجتمعون، مع أنه يقال حفل الماء و اللبن كما يقال حفل القوم)) إلى آخر ما ذكر. و الصحيح أن ما توهّمه في لفظة ((المحافل)) على خصوصها إنما هو في مادَّة الحفل بأسرها من المصدر و الفعل وسائر المشتقات على وجه العموم.

وذلك أن الحفل في الإنسان أشهر وأكثر استعمالاً منه في الماء و اللبن ولذلك كان عند الإطلاق لا يتناول غيره، وهكذا كل ما اشتقَّ منه. كما أن المرابض يُفهم بها عند الإطلاق مواضع ربوض الدابّة دون الإنسان، لأن الربوض في الدابة أشهر. فإن نُصبت القرينة على إرادة غير المشهور لم يُفَهم إلا ما أشعرت به القرينة. فيقال محفل الماء ومربض الرجل بلا خلاف. و العجب هنا أنه أجاز في كلامه محفل الماء ولم يُجز مربض الرجل وما أدري ما الفرق بينهما. وهذا مثل ما مرَّ بك من إجازته جدّهُ في الفاصلة ومنعهِ الفِطَحْل و المطل. فتأمل.

قلت: وما تقدَّم الكلام عليه من مبحث تغليب بعض معاني المادّة على سائرها كثيرٌ شائعٌ في أكثر مواد اللغة، فقلما ترى لفظةً متعددة المعاني إلا ترى بعضها قد غلب في الاستعمال وهذا أشهر من أن يُنبّه عليه. وليس ذلك خاصاً باسم ٍ ولا فعل ٍ ولا جامدٍ ولا مشتق ٍ ولكنه ذاهبُ في ألفاظ اللغة كل مذهب. ومن هنا نشأ ما يسميه البديعيون نوع الاشتراك وهو عندهم أن يورد المتكلم لفظة تشترك بين معنيين يسبق ذهن السامع إلى غير المراد منهما فيأتي المتكلم بما يصرفها إلى مراده. مثال ذلك قوله: (وَاَلنَّجَمُ وَاَلشَجَرُ يَسَجُدَان ِ) [سورة الرحمن، رقم 55، الآية 6]. فإن ذهن السامع يسبق عند ذكر ((النجم)) إلى إرادة الكوكب لأنه أشهر في معناه وهو الغالب في الاستعمال. فلما قفّى على أثره بذكر ((الشجر)) انصرف المعنى إلى النبات لقيام القرينة عليه. وقال كثير عزَّة:

وأنتِ التي حبّبتِ كلَّ قصيرةٍ إليَّ ولم تعلم بذاك القصائرُ

ثمَّ فسّر فقال:

أردتُ قصيرات الحِجال ولم أرِد قصار الخُطَى شرّ النساء البحايرُ

وقس عليه، وهذه الغلبة إنما تُعتبر عند الإطلاق فيُعدل إليها بالمفهوم كما علمتَ، فإذا نُصبت القرينة انتفت الغلبة واستوى المشهور وغيره لتقتّد المعنى حينئذ بجهة معلومة. ولما كان الفعل لا يستقلّ بلا فاعله ومتى اقترن بالفاعل تقيّد به فلم يتناول غيره، كمنت فيه مظنّة التغليب لقيام القرينة على المراد منه أبداً مشهوراً كان ذلك المراد في معناه كحفل القومُ، أو غير مشهورٍ كحفل الماء مطلقاً. ولذلك كان يُتوهّم في بادئ الرأي أن مراتب معانيه في الشهرة سواء. ولما كان اسم الموضع يَرِدُ على حالة الإطلاق لاستغنائه ذاتياً عمّا يقيَّد به خلافاً للفعل وكان الإطلاق علّة ظهور هذا التغليب كما مرَّ بك لُمِح فيه ما كان مستتراً في الفعل فتُوهّم أن التغليب خاص به وأن العرب أفردته بمعنى مخصوص كما زعم صاحبنا.

وهنا أعجب من تخصيصه اسم المكان مع أن ذلك إذا دققت النظر وجدته يتأتى في غيره أيضاً وهذا مما يدلّك على سعة علمه. فمن ذلك المصدر في نحو قوله: طال الوقوف على رسوم المعهد. وقد جمع الأمرين. ومثله اسم الزمان واسم الآلة. وبالجملة يقع ذلك على اسم الحدث وكل ما شاركه من أسماء الأعيان مُطلقاً. لأن اسم الحدث يدل على معنى مجرَّد يعدل به المتكلم حيث شاء فلا يلزمه القيد بجهة معلومة. وأسماء الأعيان تدل على ذوات يُنسب إليها الحَدَث على وجهٍ من الوجوه كأن تكون ظرفاً لوقوعه أو آلة له بحيث لا يكون بينها وبين مورد هذا الحدث علاقةٌ ذاتية.

فإذا قلت ((المربض)) مثلاً فإنما تريد موضع الربوض دون اعتبار الرابض فيه، فرساً كان أو ثوراً أو غير ذلك، كما لا يخفى .. وكذا ما جرى مجراه فإنه على حده من هذا القبيل. وكذلك الفعل يشاركه في لزوم التقييد اسم الفاعل و الصفة المشبهة به و اسم التفضيل، وبالجملة كلّ وصف شاركه في الاشتقاق معلوماً. وذلك لافتقار كل واحد من الفعل و الوصف إلى صاحبه فاعلاً أو موصوفاً لدلالته على معنى قائم بغيره فلا يستقل بنفسه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير