تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإذا تفرست في المذهبين وتدبّرت القولين لم تجد بينهما نسبة أقرب مما بين النقيض و نقيضه. والظاهر أنه عندما خطر له أسلوب سر الليال كان قد نسي ما بثّه وذهب إليه في كتابه المذكور. على أن ما حتم به مردودٌ في الموضعين جميعاً كما لا يخفى على كل ذي بصيرة. وإنما قد يتفق تناسب بعض المواد في أحد الرأيين، والحكم بالاطراد لا يكون إلا من باب العَبَث. ولولا ذلك لما اضطرَّ صاحبنا في سر الليال أن يتكلف لبعض الألفاظ تأويلاً سخيفاً وتارة فاسداً ويسكت أحياناً عن التأويل رأساً، مع أنه قطع في المقدمة بأن ذلك قاعدة راهنة. فمن ذلك تأويل معنى حبّ وأحبَّ. قال إن له فيه آراءً أحدها أن يكون من حبّة القلب فمعنى حبّه أصاب حبّة قلبه. اهـ. وفي هذا التأويل إلتواءٌ بيّن. فإنه على فرض كون الحبّ في القلب كما يقال وإليه ذهبت العرب، فإن المحب هو الذي تكون أُصيبت حبّة قلبه. و المحبوب معافى سليمٌ من بوارح مُحبّه. لا يهمه إلا ما اعتاده من التيه و الدلال. و التمتع بما أُوثِر به من عزَّة الجمال. وما برحت من ذلك في قلوب العاشقين حزازاتٌ لا تبرأ ويودّون أن لا تبرأ. وعند المعشوقين لذَّة تباع دونها أنفس العشاق وتُشرى. فما شكا محب ما به من الألم و البُرحاء إلا لطّفه بذكر صدّ محبوبه، وهم يعتقدون أن الداء يشفى بالداء. وذلك من أسرار الصبابة التي دقَّت فخفيت عن أوهام الحكماء. والله ما قال الحاجري.

كذا من حاز في الحسن الكمالا يصول على محبّيهِ دلالا

اعاتبه فيُعرض عن عياني كأني قد ذكرتُ لهُ الوصولا

ملولٌ كلما أرخصتُ دمعي لديه رغبةً فيه تغالى

وقول الآخر:

أشكو الذين أذاقوني مودّتهم حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا

واستنهضوني فلما قمتُ منتصباً بثقل ما حمّلوني منهمُ قعدوا

وما أرقّ ما قال أبو نواس:

صليتُ من حبّها نارين واحدةً في وجنتيها وأخرى بين أحشائي

يا ويح أهلي يروني بين أعينهم على الفراش ولا يدرون ما دائي

لو أنّ زهدك في الدنيا كزهدك في وصلي مشيت بلا شكَّ على الماء

على أن بحثنا ليس في هذا الصدد، فعلىَّ هنا أن ألاحظ أمر اللغة فقط وأمّا ما أخلَّ به من أصول المحبَّ وتعدّيه على أحكامها ولا سيما ما ارتكبه من الجناية في حق المحبوب، فأفوّض إلى محكمة العشاق النظر في أمرهِ و الاحتكام في جزائه. والله خير المنصفين.

وأغرب منهُ قوله بعد ذلك: ((وهو على حد قولهم شغفه حباً أي أصاب شغافه وهو غلافه أو حبّته)). اهـ. وفيه تأييدٌ لما اعترضت به، لأن المحبوب يكون هو الشاغف و المحبّ المشغوف فانعكست المسألة بخلاف ما تقدّم في الحب كما لا يخفى. ولذلك صدقت القضيّة هنا وكذبت هناك، وما أدري كيف اعتبرهما سواءً. وهذا يقابل منعهُ الفِطَحْل مع المطل وأجازته جدّه مع جهدُهُ، لأنه فرّق هناك بين حكمين هما سواءٌ وسوّى هنا بين حكمين هما ضدّان. فتأمل.

ويجري هذا المجرى قوله: ((بحدل أسرع في المشي ومثله بهدل. وبحدل أيضاً مالت كتفه وكأنه مسبب عن المشي)). اهـ. وهو من التأويلات الغريبة.

ومن ذلك قوله: ((البَهَق محركةّ بياض رقيق ظاهر البشرة ومعنى البياض في بهر لكنه قبحٌ هنا بإلحاق القاف به)). اهـ. وفيه نظر من أوجهٍ: أحدها أنه لم يذكر في تعريف البَهق أنه يكون قبيحاً. ومنها أنه جعل إلحاق القاف منشأ القبح. وهو أظهر من أن يُبيّن. ومنها تعبيره بالإلحاق وإنما هو إبدال. لأنه لو كان إلحاقاً لزم أن تكون اللفظة بهرق كما لا يخفى. ومن الغريب عدوله هنا إلى الإلحاق، مع أن كتابه مبنيٌ على القلب و الإبدال.

وقال بعد ذلك: ((ثمّ البهلق كزبرج وجَعفَر وعُصفُر: المرأة الحمراء جداً فجاء لون البهَق مصبوغاً بالحمرة))، اهـ. ومقتضاه أن الحمرة نشأت من اللام هنا نشأ القبح من القاف هناك. وإذا صحّ هذا حُسب له اختراعاً لم يسبقه إليه أحدٌ وشفع في أغلاط الكتاب بأسرها. على أن قوله: فجاء لون البهق مصبوغاً بالحمرة، خللاً وفساداً. لأن البهق لون و الحمرة لون، فإذا وُجد أحدهما انتفى الآخر. فأنى جاءهُ هذا الدليل؟ وأمثال ذلك لا تُحصى كما يظهر لمن حمل نفسه على تصفّح هذا السِفر، فاقتصر على ما ذكرته مراعاةً للمقام.

[في الدراري]

الجنان، السنة 2، الجزء 23 (1/ 12/1871) ص 806 – 811

شبلي: الشدياق و اليازجي، ص 116 - 125

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير