ثم خطأني في قولي: على أن تصديّ، بتشديد الياء. قال: و الصواب تصديي بلا تشديد. فلا ريب إن هذه إحدى آياته وكُبرى معجزاته. وأنت تدري أن لكل شيء طرفين بينهما حدّ الاعتدال فكلاهما منحطان عنه ونسبته إلى كليهما سواء. ألا ترى أن الإنسان إذا تناهى في الشيخوخة تخلّق تارةً بأخلاق الأحداث وربما تجاوز فعمّ الشبه. ولذلك قيل: إذا شاب المرء شبّ فيه خلّتان، الحرص وطول الأمل. والظاهر أن هذا من ذاك. وقال الشاعر:
إن البدر أَوَّله هلالٌ وآخره يعود إلى الهلال ِ
وكذا من تناهَى في العلم وأسراره فقد يلتبس عليه ما لا يلتبس على الأغبياء، ولذلك ينبغي أنك كلما رأيت صاحبنا قد أوغل في ارتكاب الغلط تتخذ هناك دليلاً على شدة تعمقه في المباحث العلميّة، وعليه يجب أن تُحمل هذه المسألة. وإن كانت لا تعجبك هذه الفتوى فدونك ورأيك. وما أظنك تحتاج أن أصرّح لك بأني عندما انتهيت إلى هذه المسألة هممتُ مراراً بترك الجواب أصلاً، لا استخفافاً بقدر الإمام شرّفه الله، ولكن لأن أشغالي لا تأذن لي في التفرّغ لمثل هذه المباحث مما يتطارحه غلمان المكاتب. وشهد الله إنه لم يكن يخطر ببالي أن مثل مولاي يغرب عنه أمرٌ كهذا ثمّ لا يلبث أن يخطئني به. فسأحمل نفسي مع ذلك على إيضاح هذه المسألة لئلا تبقى حاجة في نفس يعقوب، وما أوضحُها له إلا من نصوص الأئمة. رحمهم الله. قال الإمام ابن مالك في أرجوزته المشهورة:
آخِرَ ما أضيف لليا اكسُر إذا لم يَك معتّلاً كرام ٍ وقَذَى
أو يكُ كابنَين وزيدينَ فذي جميعها اليا بعدُ فتحُها احتُذِى
وتُدغَم اليا فيه و الواو وان ما قبلَ واو ٍ ضُمّ فاكسره يهِن
وفي شرحها لابن المصنف رحمهما الله: يجب كسر آخر المضاف إلى ياء المتكلم إلا أن يكون مقصوراً أو منقوصاً أو مثنى أو مجموعاً على حدّه إلى أن يقول: وأما المقصور و المنقوص و المثنى و المجموع على حدّه فإذا أضيف شيء منها إلى ياء المتكلم وجب فتح ((الياء))، وأن يُدغم فيها ما وليته إلا ((الألف)) فإنها لا تُدغم ولا يُدغم فيها. فالياء تُدغم ولا يغيّر ما قبلها من كسرةٍ أو فتحةٍ فيقال في نحو قاض ٍ ومسلمين: هذا قاضيّ ورأيت مسامِيّ. إلى آخرهِ.
وفيه لابن عقيل: يُكسر آخر المضاف إلى ياء المتكلم إن لم يكن مقصوراً ولا منقوصاً ولا مثنىً ولا مجموعاً جمع سلامة لمذكر. كالمفرد وجمع التكسير الصحيحين وجمع السلامة للمؤنث و المعتلّ الجاري مجرى الصحيح نحو غلامي وغلماني وفتياتي وظبيي ودلوي. وإن يكن معتلاً فإمّا أن يكون مقصوراً أو منقوصاً. فإن كان منقوصاً أُدغِمت ياؤه في ياء المتكلم وتُفتح ياء المتكلم فتقول قاضِيَّ رفعاً ونصباً وجرّاً. إلى آخره.
وفي الرسالة الوافية للإمام عمرو بن الحاجب: اعلم أن الاسم إمّا أن يكون صحيحاً أو ملحقاً به، أو لا يكون صحيحاً ولا ملحقاً به. وقد مرّ حكم الأولين. وإن لم يكن أحد الأخيرين فلا يخلو من أن يكون في آخره ((ألفٌ)) أو ((واوٌ)) أو ((ياءٌ)). إلى أن يقول: وإن كان آخره ياءً أُدغِمت في ((الياء)) فيقال في الرامي و الغازي: الراميَّ و الغازيّ. فإن كانت الياء محذوفة للتنوين رُدَّت وأدغمت في ياء الإضافة، إلى آخره.
وفي حاشية الصبّان على الأشموني، قوله: ((فتقول هذا راميّ))، فرامي مرفوع بضمة مقّدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالسكون الواجب لأجل الإدغام. إلى آخره.
وفي هذا غنىً عن غيره من هذا القبيل وإن كانت المسألة لا تحتاج بياناً. على أن أجهل العامّة في مصر و الشام، وربما في مالطة أيضاً، يشدد في مثل هذا جارياً على الصواب. وما أحسن ما قال أبو الطيب المتنبي:
وليس يصحّ في الإفهام شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل
وقد خطر لي هنا ما رأيته مرة في كتاب لبعض الدمشقيين من أهل القرن الماضي خطّأ فيه ديوان أبي الطيب المذكور، فكان من جملة ما أخذ عليه قولهُ في مديح عَضُد الدولة:
وقد رأيتُ الملوك قاطبةً وسرتُ حتى رأيتُ مولاها
فما زاد هذا المنتقد على أن قال: فمن أعلمه أن الملوك عابسة الوجوه وذلك أنه لم يفهم معنى قوله: قاطبةً، فظنهُ من القطوب بمعنى العبوس فأنكره وحكم على المتنبي بالعبث، فذكرتُ قول المتنبي أيضاً:
وكم من عائبٍ قلاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
¥