ومن ذلك قولي: فإنه قد حفظ له ذلك زمناً ينيف عن ستين سنة. قال: و الصواب على ستين، انتهى. وهنا تعسّف أيضاً وأشطّ. فإن قصره الصواب على تعدية الفعل بعلى خطأ. والصواب سواغية كليهما جميعاً لأنك إن أردت معنى الاستعلاء استعملت ((على)) أو المجاوزة استعملتَ ((عن)) بلا لاف، وكلاهما محتملان هنا كما لا يخفى. على أن ((عن)) قد تأتي لمعنى الاستعلاء أيضاً نحو فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي، أي عليه كما في قوله: (فَاَسَتَحَبُّواْ اَلَعَمَى عَلَى اَلَهُدَى) [سورة فصلت، رقم 41، الآية 17].
وجاء في كليّات أبي البقاء رحمه الله: و ((الزيادة تلزم وقد تتعدّى بعن كما تتعدّى بعلى لأن نقَص يتعدَّى به وهو نظيره))،اهـ. فحمل زاد على نقص وهما نقيضان فما رأيك في أناف وزاد وهما نظيران مترادفان. ولعمري، ما يعترض في مثل هذا مَن له إلمامٌ بالعربية واطّلاع على ما ورد في أسفارها. وإنما صاحبنا يرى عبارة في أحد التعريفات فيستمسك بها ويظنّ أن اللغة مقصورةٌ هناك. ولو كانت كتب متن اللغة مستغرقة لجميع أحكامها مغنيةً عن غيرها لاقتصر القوم عليها ولكان كلّ من حصل منها على كلمات يعيها في صدره أو يكتبها إمامه قد ملك عنان العربيّة وعرف جميع ضوابطها ودقائقها وما يظنّ ذلك إلا القوم الغافلون.
واعلم أن هذا الباب، أي باب التعدية بالحرف، هو من أدقّ الأبواب. فطالما ترى الكتّاب يغلطون فيه فيبدلون بين حرفٍ وآخر على غير هُدًى، وربما عُدّيَ فعلٌ بحرفين أو أكثر على اعتبارات هناك فخلطوا بينها فما لبث أن جاء المعنى مختلطاً. وقد وقع الأمران لصاحبنا كما سترى.
فمن الأول نحو قوله في كتابه الساق على الساق صفحة 90: ((فهل سول إليك الخنّاس أن تتغزَّل)). والصواب ((سوّل لك)) كما في قوله: (اَلشَيَطَنُ سَوَلَ لَهُمَ وَأَملَى لَهُم) [سورة محمد،رقم 47، الآية 25]. وفي صفحة 110: ((وصحو بالي واستعداده إلى ما يروق)).
والصواب ((لما يروق)). وهو كثيرٌ.ومن الثاني قوله في صدر هذا الكتاب تحت العنوان:
ودرس ثورين قد شُدّا إلى قَرَن ٍ أقنى وأنفع من تدريس حبرَين
و الصواب أن يقال: ((شُدّا بقرَن ٍ)) وهو ما يُجمع به بينهما من حبل ونحوه فهما يُشدّان به لا إليه وإنما بعضهما يُشدّ إلى الآخر أو كلاهما إلى عود النير مثلاً ونحو ذلك. والعجب أن يخفى هذا على مثل صاحبنا. وإذا احتجّ بضرورة الوزن فهي لا تبيح شيئاً إلا بشرط بقاء المعنى صحيحاً، فإن أدّى ذلك إلى فساده كان مردوداً عند العلماء وعُدّ غلطاً قبيحاً. على أن البيت كله سخيفٌ. وفي قوله: ((أقنى))، ما لا يخفى على كل ذي بصيرةٍ.
وأما تخطئته لي في قولي: ((على أن غلط الوهم لا يخلو منه أحد كما أشار))، وزعمه أن الصواب أن يقال: ((كما أشار إليه))، فما لم أسمع به إلا منه ولا خطر لي وجه الخطأ في عبارتي ولا الصحّة في عبارته. و الظاهر أن الأمرين لا وجود لهما في الموضعين. وهذه إحدى خطرات وساوسه المعهودة. لأن مرادي في العبارة مجرّد الإشارة فقط دون قصد المشار إليه بها، إنما ينبغي أن يُعقد الكلام على قدر الحاجة فإن تجاوزها كان مخلاً كما تقرّر في علم البيان. و العبارة على حدّ قوله: (فَاَدَعُ وَاَستَقِم كَمَآ أُمِرتَ) [سورة الشورى، رقم 42، الآية 15] اقتصر على ذكر الأمر دون المأمور به لأنه هو المراد مجَّرداً. ومثله قوله: (لَيَستَخلِفَنَّهُم فى ِ الأَرض ِ كَمَا اَستَخلَف الَّذِينَ مِن قَبلِهِم) [سورة النور رقم 24، الآية 55].
وقوله: (مَا يَعبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبلُ) [سورة هود رقم 11، الآية 109].
وقوله: (قُل لَّو كَانَ مَعَهُ ءَالهِةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذَا لاَّبتَغَواْ إِلَى ذِى العَرش ِ سَبِيلاً) [سورة الإسراء رقم 17، الآية 42]. وهو كثيرٌ مستفيض وما نرى له من نكير. فإن قُصد المتعلَّق هناك أو كان المعنى لا يستقلّ بدونه، وجب ذكره كقوله (وَأَحسِن كَمَآ أَحسَنَ اللهُ إِلَيكَ) [سورة القصص رقم 28، الآية 77]. وقد جمع الأمرين كما ترى.
وقوله: (وَيُتِمُّ نِعمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلَى ءَال ِ يَعقُوبَ كَمَاَ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَويكَ) [سورة يوسف رقم 12، الآية 6].ونحو ذلك فتأمل.
¥