وأما زعمه أني أدّعي العصمة لأبي رحمه الله، فذلك ما لم تسبق إليه مني إشارة وأستغفر الله من هذه الدعوى لبشر ٍ، فإن الإنسان ما زال موضع الخطأ و التفريط. بل إذا وصفته بأنه قابلٌ الغلط كنت كأنك وصفته بأنه قابل العلم مثلاً، لأن كلا الأمرين من لوازم الإنسانية. غير أني أقول إنه مع ذلك قد تعبث به الخيلاءُ حجاب الكبر فيتوهم في نفسه العصمة جهلاً وسفهاً، ثمّ لا يفتر أن يأخذ على الناس سقطاتهم ويترقب هفواتهم. فَمَثله مَثل الأعمى يعيّر الأعمى بأنه لا يبصِر، وربّما عيّر البصير بذلك أيضاً لاستواء الكل في عينيه حرسهما الله. ومن كان كذلك وجب تنبيهه إلى معرفة نفسه وإظهار عجزه عن إدراك غلطه فضلاً عن غلط الآخرين، لكي يعلم أنه من الضعف فوق ما يرى في نفسه من القوّة وإن في غيره بقيّة من فضل الله و الله لا يذخر فضله عن أحد.
ومن غريب هذيانه في هذا الردّ زعمه أنه يريد أن يحامي عن حقوق العربيّة. وإنه لا يخشى في حبّها لومة لائم، إلى غير ذلك من الأقوال المضحكة. فأما محاماته عن حقوق العربية فما أدري مَن الذي سلمه مقاليدها وأقامه زعيماً على أهلها حتى يدّعي لنفسه مثل هذه الدعوى؟ وكأني به قد نسي أنه دخيلٌ فيها متطفلٌ على موائد أربابها. بل لعلهم رأوا فيه من العلم و الفضل ما لم يروا في غيره من علماء العصر ففوّضوا إليه أمرها.والله الأمر ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
وأما زعمه أنه من محبّي العربيّة، فقاتل الله هذا الحبّ الذي جلب عليها تعفير وجهها وتشويه حسنها وهتك أستارها. وما كان أبّره بها لو أنه لها عدوٌ خصيم. ولله قول أبي الطيّب:
ومن العداوة ما ينالك نفعهُ ومن الصداقة ما يضرّ ويؤلم
وكأني بما ذهب إليه في سرّ الليال من أن معنى أحبهُ أصاب حبّة قلبه، قد صدق هنا فإنه كذلك أحب هذه اللغة. أجارها الله من كلّ محبٍ مثله. وما أحسن ما قاله الآخر:
أحبابه لِمَ تفعلون بقلبه ما ليس تفعله به أعداؤهُ
والظاهر أنه يذهب في الحبّ إلى ما ذهب إليه ديك الجنّ الحمصي ولا شريك له سواه. قيل إنه كان عنده جارية وغلام يهواهما وكان شديد الكلف بها. فسوّلت له الغيرة، أو شيءٌ آخر يشتق من اسمه، أنه ربما مات قبلهما فاستأثر بهما غيره من بعده. فعمد إليهما ليلةً فقتلهما ثمَّ أحرقهما فجعل من رماد كلّ واحدٍ منهما باطية ً للخمر.فكان بعد ذلك إذا اشتاق إلى الجارية قبّل الباطية المصوغة من رمادها وملأ منها كأسأً ثمَّ بكى وأنشد:
يا طلعةً طلع الحِمامُ عليها وَجنى لها ثمر الردى بيدَيها
روّيتُ من دمها التراب وطالما روّى الهوى شفّتي من شفتيها
وأجلتُ سيفي في مجال خناقها ومدامعي تجري على خدّيها
فوحقُ نعليها وما وطئ الثرى شيء أعز عليَّ من نعليها
ما كان قتلِيها لأني لم أكن أبكي إذا سقط البعوض عليها
لكن بخلتُ على سواي بحسنها وأنفت من نظر العيون إليها
وإذا اشتاق إلى الغلام فعل كذلك بباطيته وأنشد:
أشفقتُ أن يَرِدَ الزمان بغدره أو أُبتلى بعد الوصال بهجره
قمرٌ أنا استخرجته من دجنه لبليتي وأثرته من خدره
فقتلته وله عليّ كرامةٌ فليَ الحشى وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتاً كأحسن نائم ٍ و الطرف يسفح دمعتي في نحره
لو كان يدري الميت ماذا بعده بالحيّ منه بكى له في قبره
غُصصٌ تكاد تفيض منها نفسه ويكاد يخرج قلبهُ من صدرهِ
نعوذ بالله وإياه نحتسب. ومما حَسُن عندي موقعه قوله في هذا الردّ:
((أما قوله إنه كان يلزمني إشعار أبيه باختلال لفظة ((الفحطل)) على ما يقتضيه عهد المودّة فهو لا يلزمني، لأن لهذه اللفظة أخواتٍ كثيرة في المقامات فلو اختصصت منها بالذكر لفظة ((الفحطل)) لما كنت مصيباً ولأني كنت مترقباً إصلاحها منه، فلما بقيت على الخطأ نبّهتُ عليها قياماً بحق اللغة فإني لا أخشى في حبّها لومة لائم)).اهـ.
قلت ُ: إن العبارة التي بنى عليها كلّ هذا لم تَرد في كلامي على هذا الوجه أصلاً، فما أدري مَن الذي وسوس إليه بها. وما أحسن ما اعتذر به من قوله: فلو اختصصت منها بالذكر لفظة ((الفحطل)) لما كنت مصيباً. ولا أدري ما كان يمنعه من أن يذكرها له جميعاً. وما الذي كان يُلزمه بأن يختصّ منها لفظة ((الفحطل)) فقط حتى يكون غير مصيبٍ. وأحسن منه قوله:
¥