ـ[محمد الأمين]ــــــــ[29 - 04 - 03, 11:26 ص]ـ
يا أبا عمر
يؤسفني أنك تعيد ترديد نفس الأقوال.
بعض السلف كان يقول فلان كذاب يقصد أنه كذاب في رأيه لا في الحديث، كما فسر ذلك الحافظ أحمد بن صالح المصري. والبعض كان يقول كان فلان جهمياً ويقصد الإرجاء (حيث أن الجهمية مرجئة).
وبعض الذين انتقدوا أبي حنيفة هم فعلاً أصحاب تعصب مذهبي. قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2\ 149): قال يحيى بن معين: أصحابنا (أي أهل الحديث) يُفْرِطون في أبي حنيفة وأصحابه.
فالخطيب البغدادي كان شافعياً متعصباً على الأحناف والحنابلة. وقد رد عليه ابن الجوزي وغيره. قال الحافظ السَّلفي ابن عبد الهادي الحنبلي (ت909هـ) في "تنوير الصحيفة": «لا تَغتَرّ بكلام الخطيب، فإن عنده العصبية الزائدة على جماعةٍ من العلماء كأبي حنيفة وأحمد وبعضِ أصحابه. وتحاملَ عليهم بكل وجه. وصنَّف فيه بعضُهم "السهم المصيب في كَبِد الخطيب"». ونقل العيني الحنفي في "البناية" (1\ 628) عن ابن الجوزي الحنبلي أنه قال: «والخطيبُ لا ينبغي أن يُقبَل جرحُه ولا تعديلُه، لأن قولَه ونقلَه يدل على قِلَّةِ دين».
ثم إن اضطراب ابن حبان معروف مشهور. وهو الذي يذكر الرجل في ثقاته ثم يذكره مع المجروحين. عدا عن احتجاجه بالمجاهيل في "صحيحه". فهو متعنتٌ بالجرح متساهلٌ بالتوثيق. وعداوة ابن عدي للأحناف مشهورة. ومن إنصافه (!!) أنه حاول تضعيف أبي حنيفة معتمداً على ما رواه عنه أباء بن جعفر النَّجيرمي الكذاب. وأباء هذا قال عنه ابن حبان: فرأيته قد وضع على أبي حنيفة أكثر من 300 حديث.
وأما العقيلي فقد عده ابن حجر والذهبي من المتعنتين.
لكن السبب الحقيقي في كرههم لأبي حنيفة هو خلافهم معه في الفقه. فأبو حنيفة قد أخذ الإرجاء (وهو إرجاء الفقهاء الذي هو خلاف لفظي أكثر منه حقيقي) من شيخه حماد. ومع ذلك لا تجد هذه الحملة الشعواء على حماد.
ويتضح الموقف الحقيقي عندما نتكلم على أصحاب أبي حنيفة خاصة ممن لم يتابعه في الإرجاء. فمثلاً مع إقرار أحمد بعلم شيخه أبي يوسف وقوة حفظه للحديث، فإنه قليل الرواية عنه. كما أنه إذا روى عن أبي حنيفة، دلس اسم أبي حنيفة وجعله أبا فلان! بل إنه قال لإبنه كما في الجرح والتعديل عن أبي يوسف: «صدوق، ولكنه من أصحاب أبي حنيفة، لا ينبغي أن يُروى عنه شيء!».
فهم يروون عن غلاة الشيعة ورؤوس المرجئة ودعاة الخوارج والكثير من القدرية، لكنهم يمتنعون عن الرواية عن الأحناف. مع أن أبا يوسف كان ثقةً فقيهاً سلفي العقيدة، وكان يقول: «الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص». ومن المؤسف أن يظل البعض اليوم على هذا المنوال.
ويعجبني ما قاله الأخ الفاضل أبو عبد الله الدورقي:
هَلَكَ في أبي حنيفة: رجُلان: كلاهما غَالٍ:
1 ـ غالٍ في التعصّب لأبي حنيفة لا يرى إلاّ هو .. ومن ثَمّ لا تراه إلاّ مُغرِقاً في إطرائِهِ .. فإذا ذُكِرَت له أقاويلُ الأئمة الثابتة في بيان هَفَواتِ ذلك الإمام راحَ يُشَنِّعُ عليهم ويكيلُ لهم كُلّ ألفاظ السَبّ والشَتْم بل والتكفيرِ أحياناً ... وخذ على ذلك أمثلةً: (الكوثري وتلاميذه)!!
2 ـ غالٍ في الذمِّ لأبي حنيفة فهو يَرى أنّه: ضَالٌ مُضِلٌ .. بل ربّما صَرّحَ بكُفرِهِ ـ كما في كتابٍ لأحدهم ـ وحينئذٍ لا يَقبَلُ وصفَ أبي حنيفة بالإمام ولا يَرَى الترحّم عليه ... وعلى ذلك أتباع محمود الحدّاد!!
وبين هذَين الطَرَفين مَهيَعٌ واسِعٌ للإنصاف .. وسبيلٌ واضحٌ للعدل
والخُلاصةُ: أنّ الأمرَ قد استقرّ بِأَخَرة عند أهلِ السُنّة على أنّ أبا حنيفة إمامٌ فقيهٌ بل قال عنه ابنُ القيم في النونيّة: (للهِ دَرّك من إمامِ زَمانِ)
و مِن قبلُ:
قال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس، وقال الشافعي الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة
قال الذهبي معَلّقاً قلت الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام وهذا أمر لا شك فيه، وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل) " السِيَر " (6/ 390)
وأمّا الاعتقادُ: فهو قد خالَفَ أهل السنة في مسائلَ من الإيمان وغيرِِه .. لكن قد استشهد العلماءُ بأقوالٍ له نفيسةٍ في مسائلَ كثيرة: كالعلوّ والاستواءِ ونحوها ..