تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وجوابي عن ذلك باختصار ما يلي:

أرى أن الأنسب أن نبدأ بسؤال مهم يسبق هذا، ويكون أساساً له وهو: (هل يوجد فرق حقيقي بين المتقدمين والمتأخرين في النقد؟ وهل يمكن تمييز كل منهما وضبطه؟ ... ).

والحق أنه يوجد فرق واضح بين المنهجين اعترف به أئمة المتأخرين أنفسهم، فقلد قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في كلام له في النكت (2/ 726):

" ... يتبيّن عِظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشِدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصِحة نظرهم، وتقدمهم، بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه ".

وللحافظ السخاوي - رحمه الله تعالى - كلام قريب من هذا، أظنه في رسالته فيمن يُقبل قوله في الجرح والتعديل، فإن لم يكن ففي فتح المغيث. وقبلهما للإمام الذهبي - رحمها الله تعالى - كلام في نقد الرواة من القرن الرابع فما بعده، واختلافهم عمّن كان قبلهم .... الخ.

بل لقد قال الشيخ العلامة المعلمي - رحمه الله تعالى - أنه يرى أن في تحسينات المتأخرين تساهلا بيّناً، ثم قال متأدِباً: ولعل مرَدَّ ذلك إلى شدة فيَّ تُنتقد عليَّ، أو عبارة نحو هذه.

والحاصل مما سبق أن وجود منهج للأئمة في القرون الأولى - وهو العصر الذهبي للسُنّة - يكادون يتفقون على أسسه، وتتضح لمن أدام النظر في كلامهم في نقد الراوي والمروي أمرٌ لا شك في ثبوته، ولاشك في مغايرته لمنهج أكثر النقاد في القرون التي تلتهم. وفي هذا الجواب المختصر عن السؤال الذي بدأتُ به أنا كفاية إذا لم يكن فيه ما يُشكل عندك.

والآن أعود إلى سؤالك:

تقول بارك الله فيك: (((ما هي ثمرة التفريق بين المنهجين؟)))

في ضوء ما تقدم يتبيّن لنا أنهما منهجان اثنان، بينهما اتفاق كبير، واختلاف لا يصح التغافل عنه، فما ثمرة هذا التفريق؟

ثمرته باختصار هي:

1/ تلافي بعض القصور المنهجي عند [بعض] المتأخرين.

2/ التنبه لأنواع من العلل، والضوابط في نقد الرجال ومروياتهم لم يولِها [بعض] النقاد المتأخرين ما تستحقه من عناية.

3/ أنه من الواجب أن نضيف إلى تخريج الحديث وجمع أقوال النقاد في رواته جرحا وتعديلاً، من الواجب أن نضيف إليها جمع أقوال أئمة النقد الكبار - الذين وصفهم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بما لا مزيد عليه، وهو في صدر هذا الرد - بحيث لا يُحكم على حديث أو وجه إلا بعد أن نبذل طاقتنا في جمع أحكامهم، وتفهم مقاصدهم حال اختلافهم أو اتفاقهم، فلا نحكم على حديث أو وجه قبل هذا الجمع الذي يتلوه التفهم لعباراتهم وأحاكمهم سواء صححوا الحديث، أو أعلوه، أو اختلفوا في ذلك، وتفهم أسباب الاختلاف، والنظر فيها ... ثم نجتهد بعدُ في ظل كل هذه المعطيات.

4/ وأختم (حتى لا أطيل) بهذه الثمرة المهمة وهي: حل الإشكال القديم الذي اضطرّ حُذّاق النقاد من المتأخرين - زمانا ومنهجاً - إلى التصريح به، وهو أن ما يُدرّس في كتب علوم الحديث التي ألفها المتأخرون - مع جلالة قدرها - لا يطبّق عملياً بنفس طريقة التقريرات النظرية التي في حواشي القوم - وربما في متونهم - فإذا فرقنا بين المنهجين، رددنا ما في كتب علوم الحديث - أكثره - إلى منهج المتأخرين بمناقبه والمآخِذ عليه، ورددنا المنهج المستفاد من ممارسة كتب المتقدمين وأحكامهم وتعليلاتهم إلى منهجهم الذي هو أحكم وأسلم.

فهذه بعض الثمرات، وهنا ملحظان أختم بهما:

الملحظ الأول:

أن الاستقصاء في الإجابة على هذا السؤال ستنتظم المسألة كلها، وقول كل فريق، وإنما أورتُ هنا أمثلة تثير أذهان الحُذاق إلى طرف من الجواب، وهم - بشريف علومهم وفهومهم - سيتصورون - إن شاء الله تعالى - ما يتبع ذلك من فروع. وأرجو إن مدَّ الله عز وجل في العمر أن نورد تفاسير وتفاصيل ما أُجمِلَ هنا في ثنايا حوارنا.

الملحظ الآخر:

لا يشتهر خلاف بين العلماء الأجِلاء، والفضلاء من طلابهم ((وليت شعري متى أتفقوا في جميع الفروع حتى لا تسمع صوت مخالف منهم؟!)) إلا أحاله العامة والغوغاء من السوقة إلى صراع يشبه أفعال اللاهين واللاعبين في تعصبهم للأمور الخسيسة.

ولو فطن هؤلاء إلى ما يعلمه طلاب العلم مما أورده شيخ الإسلام ابن تيمة - رحمه الله تعالى - في رسالته الشهيرة (رفع الملام) من أسباب لاختلاف العلماء هي - في حقيقية الأمر - دلالات أتفاق على الأصول، ولو فطنوا إلى الحِكم المستقاة من هذا الحوار التي منها إثراء للعلوم، وتجديد لها، وإعمال لآلات السمع والبصر والفكر وغيرها في نصوص الكتاب والسنة وما يتفرّع عنهما من علوم، أقول: لو فطنوا لهذه الحِكَم ولغيرها لما شاغبوا على العلماء، ولما امتلأت صدور بعضهم غيضاً، وألسنتهم سخرية، وتعبيراتهم جرحاً وقدحا، ولأيقنوا أنّا وإن كنا لا نحب الخلاف ولا نستهدفه شرعاً، لكنه سُنة كونية ارادها الله تعالى لِحكم عظيمة في خلقه، وإلا فلو شاء سبحانه لفصّل لنا الدين في كتاب كبير، ولا يضل ربي ولا ينسى سبحانه، ولَمَا احتجنا إلى الأئمة كأحمد وابن معين والبخاري وابن المديني، ولا للفقهاء ولا لغيرهم، ولربما كان هذا المنتدى الطيب، والأموال المصروفة عليه وإليه، والأوقات التي تقضى في مطالعته عَدَماً غير موجودة، ولربما كان موضوعه - في أحسن أحواله - عن أنواع الفواكه أو السيارات، ولفقدنا الحاجة إلى الحوار العلمي ... الخ. كل هذه بعض التصورات لجانب صغير من حياتنا دون خلاف في الفروع، وفي فهم النصوص.

أرجو المعذرة من الجميع - وخاصة الأخ صاحب الموضوع - على إطالتي هذه، لكنه تنبيه أردتُ أن أثبتَه في أوائل الردود إن كتب الله تعالى لنا الاستمرار في الحوار، ومما سبق فإني أنبه على أهمية حُسن المنطق، والتأدب بأدب أهل العلم كما نبه كاتب الموضوع جزاه الله خيرا، ومَن يتطاول عليّ فلن أرد عليه، وأسأل الله تعالى لي وللجميع العون على الطاعة والمغفرة للذنوب جميعا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير